احتقار الذات

احتقار الذات

احتقار الذات

 العرب اليوم -

احتقار الذات

بقلم:سوسن الأبطح

بعد أن صدَّع البحَّاثة رؤوسنا بضرورة تعليم الطفل لغات مختلفة في وقت واحد؛ للاستفادة من مرونة الدماغ في سنواته الأولى، وضيَّعوا هوية أجيال بأكملها، أصبح العنوان العريض هو التركيز على اللغة الأم وإعطاءها مركز الصدارة. أكثر من ذلك، فإنَّ الدراسات تحذر وتنذر من يتهاونون باللغة الأم للأطفال، أو يظهرون اتجاهها استخفافاً أو عدم تقدير، بأنهم سيواجهون بجيل يعاني من مركبات نقص كبيرة ومدمّرة للشخصية. وهو ما نراه بأعيننا، ولا يحتاج دراسات معمقة.
لافتةٌ كثرةُ الكتاباتِ والبرامج الغربية، والحملات الإعلامية، بمناسبة اليوم العالمي للغة الأم، التي تحث الجميع على احترام اللغات الأصلية وتعزيزها، وصيانة كينونتها، والحرص على الحفاظ عليها، ولو تعلم التلميذ حين يلتحق بالمدرسة لغات أخرى، فذلك أدعى لتذكيره أن له لغته الأولى يتوجب الحفاظ عليها، لا بل تطويرها.
ويصرخ السيكولوجيون الفرنسيون ملء حناجرهم، مطالبين بتصحيح خلل بنيوي تربوي؛ إذ إن أطفال نصف المهاجرين في بلدين مثل السويد وبريطانيا، يتحدثون لغتهم الأم إلى جانب لغة البلد الذي يعيشون فيه، مع أن الإنجليزية مغرية جداً لتسهيل التواصل، فيما لا يعرف سوى 10 في المائة من أطفال المهاجرين في فرنسا لغة آبائهم. وذلك يعود لسياسة الدولة المبنية على الخوف من الآخر، وعدم تشجيع التعبير عن الاختلاف، إضافة إلى الحذر من تشكّل جاليات تتعايش بجانب بعضها بعضاً بدل أن تذوب في النسيج الفرنسي وتنسى نفسها. وكان النسيان هو المطلوب، صار تذكّر الأصل والفصل والاعتداد بهما هو ما يشار إليه على أنه المنقذ لبناء شخصية متوازنة، لا تعاني الشعور بالاضطهاد والدونية.
الألسني رومان كولونا المتخصص باللغة الكورسيكية، التي غلبتها الفرنسية وطغت عليها وحطمتها، يجري أبحاثاً مستمرة حول لغته التي يسميها «لغة القلب»، وأحياناً «لغة الحب والعاطفة»، ويضع إصبعه على الجرح. «المشكلة أنه حين يتم الكلام عن اللغة الأم، فهذا لا يجري في أجواء علمية وبحثية موضوعية، بقدر ما يناقش في أجواء سياسية، ولتغذية نزاعات لغوية وعرقية». هذا ما يعرقل الاستفادة من آراء الأكاديميين أو حتى تطبيق توصياتهم.
هكذا تبقى الحقائق الساطعة في وادٍ، ورغبات راسمي السياسيات والخطط التربوية في مكانٍ آخر، ومن يدفع الثمن هم الناس العاديون حين يضيعون، بين ما تطلبه المعلمة، وما ترفضه المعالجة النفسية.
ومعلوم أن احتفالية اليوم العالمي للغة الأم التي أطلقت عام 2000، هي على عكس الاحتفاليات الدولية التي أقرتها اليونيسكو، جاءت نتيجة أحداث دموية ونضال طويل لأكثر من 196 مليون متحدث باللغة البنغالية، استطاعوا الانتصار لثقافتهم. حاولت باكستان فرض اللغة الأوردية على بنغلاديش عام 1948، لكن الرفض كان قوياً وعاصفاً ومستمراً لسنوات، حتى اضطرت باكستان للرضوخ ومنح بنغلاديش استقلالها وحقها في تبني البنغالية لغةً رسمية عام 1971.
المحللة الفرنسية ماري روز مورو التي تتعاطى يومياً مع أطفال المهاجرين، تنصح المدرسين بأن يبدلوا سلوكهم بأسرع وقت. «حين يواجه طفل مهاجر من أصول عربية، صعوبات تعلميه باللغة الفرنسية على المعلمة أن تطلب من الأم التركيز على العربية قراءة وكلاماً وتقويته بها؛ كي يشعر بالأمان والثقة بالنفس، ويتمكن من تقبل لغة جديدة بحماسة». ما يحدث حالياً، أن أولاد المهاجرين غالباً ما ينصحون بترك لغاتهم الأصلية جانباً، عندما يواجهون صعوبات في المدرسة، كي يتمكنوا من إتقان الفرنسية، وهو ما ينتهي بفشل ذريع.
يتم التحذير من أن 40 في المائة من سكان العالم لا يحصلون على التعليم باللغة التي يتحدثونها أو يفهمونها. وهو ما يعتبره الخبراء الألسنيون انتهاكاً لهوية الإنسان وحقه في المعرفة، والوصول إلى المعلومات بالوضوح الكافي، من دون تشويش أو ضبابية في المفاهيم.
وهنا يطرح السؤال الأليم حول ما يمارسه عشرات آلاف الآباء العرب وهم يعيشون في أوطانهم أو في المهاجر، حين يمتنعون طوعاً، عن التحدث مع أبنائهم بلغتهم الأم، ويرطنون بلغات أجنبية يعتبرونها أكثر رقياً، وأشد نفعاً: ألم تقرر العائلات العربية أن تمارس العنف المعنوي على أبنائها، وهي تفرض عليهم اللغات التي تعتبرها مخملية، وتحرمهم من لغة الرحم الأولى، ومن قدرتهم على التواصل بسلاسة مع محيطهم الحميم؟ الغالبية للأسف لا تقرأ ولا تبحث، لتعرف أن الاختصاصيين الغربيين أنفسهم باتوا يعيبون على مدارسهم التعامل مع اللغات، وكأن بعضها لغات ست وأخرى لغات جارية، فهذا يفتقد إلى أدنى المقاييس العلمية. والأطفال الذين لا يتمكنون من لغاتهم الأصلية، بحسب كل الإحصاءات، يعجزون في الغالب عن تسجيل نجاحات كبيرة في مدارسهم أو في حياتهم الإبداعية. لذلك فتوريث اللغة للأبناء حق لهم علينا، يتجاوز في أهميته حقهم في الإرث بالثروات والعقارات، حين توجد.
وعندما تمارس على الطفل سلوكيات تشعره بأنه ينتمي إلى ثقافة لا تستحق الاحترام، ينمو مهيضاً، منكسراً، ينقصه الاعتداد، ولو رطن بألف لغة أخرى. الخواء الثقافي والهشاشة التكوينية عند أطفالنا، المحرومين من التعبير عن أنفسهم بسلاسة، بلغتهم الرحمية الدافئة، هو ما يدفعهم للبحث عن استكمال هويتهم وترقيعها بانتماءات آيديولوجية أو دينية، قد تكون مستعارة من مجموعات فكرية ذات توجهات خطرة.
اغرسوا العربية في أرواح أطفالكم في سن مبكرة؛ كي يتحولوا إلى شجرة مثمرة بمختلف اللغات.

arabstoday

GMT 06:23 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

المبحرون

GMT 06:20 2024 الأربعاء ,10 تموز / يوليو

قرارات أميركا العسكرية يأخذها مدنيون!

GMT 06:17 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

تسالي الكلام ومكسّرات الحكي

GMT 06:14 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

كيف ينجح مؤتمر القاهرة السوداني؟

GMT 06:11 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

اكتشافات أثرية مهمة بموقع ضرية في السعودية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

احتقار الذات احتقار الذات



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 07:35 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
 العرب اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 07:55 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
 العرب اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 09:46 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
 العرب اليوم - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 09:07 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
 العرب اليوم - "نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25

GMT 07:15 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

فيتامين سي يعزز نتائج العلاج الكيميائي لسرطان البنكرياس

GMT 06:15 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

1000 يوم.. ومازالت الغرابة مستمرة

GMT 09:46 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 15:49 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

الاتحاد الأوروبي يؤجل عودة برشلونة إلى ملعب كامب نو

GMT 14:52 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

الرئاسة الفلسطينية تعلّق على "إنشاء منطقة عازلة" في شمال غزة

GMT 06:27 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الجيش الإسرائيلي يصدر تحذيرا لـ3 مناطق في جنوب لبنان

GMT 12:26 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الجنائية الدولية تصدر مذكرتي اعتقال بحق نتنياهو وغالانت

GMT 13:22 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

الرئيس الإيراني يناشد البابا فرانسيس التدخل لوقف الحرب

GMT 13:29 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

رئيس دولة الإمارات وعاهل الأردن يبحثان العلاقات الثنائية

GMT 14:18 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

شيرين رضا خارج السباق الرمضاني 2025 للعام الثالث علي التوالي

GMT 06:52 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

نتنياهو يعلن عن مكافأة 5 ملايين دولار مقابل عودة كل رهينة

GMT 14:17 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

نادين نجيم تكشف عن سبب غيابها عن الأعمال المصرية

GMT 09:07 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25

GMT 23:34 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

يسرا تشارك في حفل توقيع كتاب «فن الخيال» لميرفت أبو عوف

GMT 08:54 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

تنسيق الأوشحة الملونة بطرق عصرية جذابة

GMT 09:14 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

موديلات أوشحة متنوعة موضة خريف وشتاء 2024-2025

GMT 06:33 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

صهينة كرة القدم!
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab