بقلم - سوسن الأبطح
لا أعرف صحافية عربية عاشت حياة أغرب مما عاشته روز اليوسف، ومع ذلك، فإنَّ جزءاً مهماً من سيرتها، لا يزال يلفُّه الغموض، رغم مرور أكثر من ستين سنة على رحيلها. وحين كتبت «روزا» - كما كانوا ينادونها - مذكراتها تقصّدت أن تتركها ناقصة لأنَّ «من الأشياء ما يصعب على المرء أن يقوله أو يوضحه». وكان ينتظر من ابنها الأديب إحسان عبد القدوس أن يسدَّ شيئاً من هذا النقص - بناء على وصيتها - فإذا به يسطر لكتابها هذا مقدمة يزيدها ضبابية. وإذا كان من شخصية تصلح كرمز للشعار المرفوع هذه السنة في يوم المرأة العالمي: «اختاري التحدي»، فهي هذه السيدة التي بقيت شبه أمية حتى سن متقدمة، فقررت أن تصبح صحافية.
كل ما نعرفه عن طفولتها أنَّها ولدت باسم فاطمة محيي الدين اليوسف، لعائلة مسلمة من طرابلس، توفيت أمُّها باكراً فتركها والدها، عند عائلة مسيحية أطلقت عليها اسم روز، وسافر إلى إسطنبول وتوفي هو الآخر. صدمت ابنة السبع سنوات، حين قررت العائلة تسفيرها إلى البرازيل مع رجل قريب لهم، ولا بدَّ أنَّها عاشت لحظات مروعة، عندما علمت أنَّ من يربيانها ليسا والديها. حين رست الباخرة في الإسكندرية، هربت الطفلة وآثرت أن تجازف وتبقى، وقد تعرفت بالمسرحي إسكندر فرج، ولم تكن لتتخيَّل أنَّها ستبني في تلك البلاد مجداً، وتشارك في النهضة. فالصدف لها حكمتها، والإرادة تصنع الأساطير.
شقَّت فاطمة طريقها إلى عالم المسرح، وعملت في كواليسه، وتمكَّنت وهي في الثالثة عشرة، من أن تصعد إلى الخشبة وتلعب أول أدوارها بفضل المخرج عزيز عيد، وتلفت الأنظار. يلمع نجم الصبية الصغيرة ذات الصوت الخفيض والأداء الهادئ سريعاً، وهي تجيد أداءها مع فرق «نجيب الريحاني» و«جورج أبيض» و«رمسيس» التي أسَّسها يوسف وهبي، لكنَّها سرعان ما تختلف معه، وتقرر ترك التمثيل. كتبت يومها: «أعلنت انسحابي من المسرح هروباً من أصحاب رؤوس الأموال واستبداد مديري الفرق».
لم تعد أحوال المسارح ترضيها، فقامت بعمل ثأري جميل، وأسست مجلة تدافع عن الفنانين وتكون صلتهم بجمهورهم، بدل مجلات تنمو «كالنباتات الطفيلية». ومن منزلها الشخصي، وببضعة جنيهات ستبدأ رحلتها الشاقة. «لم تكن الصعوبة الكبرى في المال القليل، ولا الجهد المضني، ولا سوق الصحافة الضيق، بل كانت تتلخَّص في أنني سيدة. ولم يكن من حق المرأة أن تدخل ميدان الحياة العامة. لم يكن المجتمع يعترف بها إلا جارية تضع على وجهها الحجاب. كان اقتحام ميدان الصحافة صعباً جداً على الرجال، فما بالك بالنساء»، هذا ما كتبته في مذكراتها. المحررون، الوزراء، زعماء الأحزاب، من يشنُّون الحملات المتتابعة عليها «رجال لا يعرفون عن النساء إلا أنَّهن لهو ومتاع». رافقها الصحافي الشهير محمد التابعي في خطواتها الأولى، ورغم خلافه معها اعترف، بأن أي شخص آخر مكان روز اليوسف، امرأة أو رجل، كان لييأس ويوقف المجلة منذ عامها الأول.
بعد كل خطوة كان ثمة عثرة، حين قررت أن تؤسس صحيفة تحمل اسمها يقول التابعي: «كانت الصعوبة، كيف نحمل القراء على أن ينسوا أنَّ هذا اسم سيدة، وأن يأخذوا كلام المجلة على محمل الجد». وحين عرضت روزا على العقاد أن ينضم إلى أسرة جريدة يومية تحمل نفس الاسم، رد غاضباً: «لا... أنا لا أعمل في جورنال يحمل اسم واحدة ست». وكان سكرتير حزب الوفد مكرم عبيد إذا ما اضطر إلى قراءة «روز اليوسف» في مكان عام يضعها داخل صحيفة ثانية خجلاً، ومداراة للاسم من عيون المارة.
لكن فاطمة لم تتوقف عن إصدار المطبوعات. «المدام» لا تتعب ولا تهادن. لم تنفع معها كل أصناف الردع، لا الدعاوى ولا المحاكمات، ولا حتى السجن وعشرات المصادرات لمطبوعاتها، مما أوصلها تكراراً إلى الإفلاس. كانت الصوت المشاكس، والرأس التي لا تنحني. وشاء القدر أن تكون معارضة أبداً للحكومات المتعاقبة.
قصة فاطمة اليوسف بين المسرح والصحافة والسياسة، وهي تجمع حولها نجوم الأدب والشعر، والرسم، في مجلة جعلت الكاريكاتير عمادها، استثنائية ومليئة بالمتناقضات. من الصعب أن تفهم كيف تمكنت من بناء هذا الصرح الصحافي، وهي لا تجيد الكتابة؟ أي جرأة أن تواظب على نشر مقالات توقعها باسمها، وهي تمليها أفكاراً على أحد زملائها أو على ابنها إحسان. وجَّهت بعد ثورة 23 يوليو (تموز) لعبد الناصر عشر نصائح في إحدى المقالات، هاجمت حزب الوفد بعد أن كانت معه، وقفت ضد الإنجليز، كما كانت ضد السرايا أيام الملكية.
تسأل نفسك أيضاً، كيف تمكنت من حفظ أدوراها المسرحية قبل أن تتعلم فك الحروف؟ أسست لمدرسة الرأي في الصحافة المصرية. والرأي يحتاج قلماً وأسلوباً، فكيف لهذه المقدامة أن تجرؤ، وتمثل أمام المحاكم، وتواجه وزراء وحكومات، بقلم غيرها؟ كيف استكتبت قامات وصنعت نجوماً، وتحلّق حولها عباس محمود العقاد وعبد القادر المازني وصلاح جاهين وأحمد شوقي وأحمد بهاء الدين. وهل من كاتب مرموق في تلك الفترة لم ينشر في «روز اليوسف»؟
أدركت أن «الصحافة سلاح السياسة الأول»، وعليها أن تدفع الثمن، وهي بلا عائلة أو سند، على عكس صديقتها هدى شعراوي التي ولدت أرستقراطية مرفهة. عند روزا «الكفاح طريق طويل لم يغطه أحد بالأسفلت». وقد مشته على ساقيها حتى كلَّتا من السير وأصيبتا بضيق في الشرايين، لكنَّها انتصرت من قبرها، وبعد أربعة أعوام تبلغ مدللتها «روز اليوسف» 100 سنة.