بقلم - سوسن الأبطح
لا يأسف الرئيس جو بايدن على التوقيت. جلّ ما يريده هو الخروج من المستنقع. «لا يوجد وقت مناسب، أصلاً، للانسحاب الأميركي من أفغانستان»، هي كلها مواعيد سيئة، وكل يوم تأخير سيجعلها أسوأ. المشاهد السوريالية في مطار كابل تصيب الحلفاء في «الناتو» بالإحباط، عدم التنسيق يفاقم من شعورهم بأن قصة الحب الأوروبية - الأميركية شارفت على نهايتها، لكن بايدن يبدو وكأنه لا يسمع أحداً، وجلّ تركيزه هو على وضع نقطة النهاية لمغامرة، ثمة من يقول إنها كانت يجب أن تنتهي قبل 19 عاماً.
ليس مهتماً الرئيس الأميركي بأن تمضي الذكرى العشرين لـكارثة 11 سبتمبر (أيلول) دون أن يقرنها بكارثة أكبر، إنه فقط يستعجل الخلاص من ورطة، أُجّل أكثر مما يحتمل. فهو الذي نصح الرئيس أوباما يوم كان «نائباً» له بألا يرسل المزيد من الجنود إلى أفغانستان، خوفاً من الإيغال في الانزلاق، لكنه لم يصغِ.
كثر كانوا يعرفون أن الوضع في أفغانستان كارثي. التقارير لم تخفِ الأنباء السوداء. الموجودون على الأرض كانوا يتوجسون من الآتي. سحب الفرنسيون قواتهم عام 2014 متعللين بحاجتهم للجنود في الصومال، لكنه كان هرب الخائف من مواجهة «البعبع». السفير الفرنسي السابق لدى أفغانستان جان داميكور في كتابه «حرب دبلوماسية في كابل» يصف بوادر الفشل الذي رآه يطل برأسه حين كان هناك، بين عامي 2008 و2011. وصف هيئات دول الناتو التي تدير عملية الاستنهاض بأنها «آلات بطيئة، تشتغل على طريقة البنك الدولي، تعمل منفصلة عن الواقع، بطريقة لا تتناسب مع بلد في حالة حرب، حيث أُعطي كل الدعم للحكومة المركزية والإدارات التي أغدقت عليها الثروات، وترك كل ما تبقى». يستغرب السفير أن أعطيت الأولوية للعمارة والبناء، بدل القضاء، والشرطة، والحكومات المحلية أو البلديات.
كان العالم مشغولاً عن أفغانستان بالتحضير للأعياد، في نهاية عام 2019. يومها نشرت صحيفة «واشنطن بوست» ما سمّته «أوراق أفغانستان... تاريخ سري للحرب»، وهو عبارة عن ملخص لمقابلات في ألفي صفحة، مع 400 شخصية عسكرية ومدنية لعبت دوراً مباشراً في الحرب، بهدف معرفة أسباب فشل أطول نزاع مسلح في تاريخ الولايات المتحدة، لتفاديها في مرات مقبلة.
في هذه المقابلات الحكومية، رفض بعض المتكلمين الكشف عن أسمائهم. لكن فيها من عجائب القصص، ما يجعل دهشتك تفوق ما تتابعه الآن بعد وقوع الواقعة، في كابل.
أحد الجنرالات، واسمه دوغلاس لوت، خدم خلال إدارتي بوش وأوباما يقول: «لم يكن لدينا أدنى فكرة عما نقوم به». هذا الضياع أودى بحياة 2400 شخص. وأنحى الجنرال باللائمة في مقتل العسكريين الأميركيين على «الانهيارات البيروقراطية بين الكونغرس والبنتاغون ووزارة الخارجية».
وصف بعض العسكريين الاستراتيجية القتالية التي اتبعت بأنها «معيبة بشكل قاتل».
في المقابلات كلام عن الكذب المستمر على الشعب الأميركي، وأن الإدارات المتعاقبة أوحت بأن الوضع جيد، وتم تزييف الإحصاء، عمداً، في المقرات العسكرية في كابل، والبيت الأبيض، لجعلها تبدو وكأن الولايات المتحدة تكسب الحرب، وهو الأمر الذي لم يكن كذلك. أحد الكولونيلات ويدعى بوب كرولي يقول إن «الاستطلاعات كانت غير صحيحة وغير موثوقة، وعززت فكرة أن ما نفعله صحيح حتى أصبحنا مخروطاً من الآيس كريم يلعق نفسه».
هذا عدا عن تضارب الأهداف؛ بعض المسؤولين الأميركيين أرادوا تحويل أفغانستان إلى دولة ديمقراطية، وآخرون كان تركيزهم على الثقافة الأفغانية وحقوق المرأة، وفئة ثالثة هدفها إعادة تشكيل ميزان القوى الإقليمي بين باكستان والهند وإيران وروسيا.
الفساد وتسيُّد المختلسين، كان المقبرة الحقيقية للجهود الأميركية في أفغانستان. 300 مليون دولار الكلفة اليومية. وبدل أن تصرف على مشاريع استثمارية تجعل أفغانستان دولة منتجة، ظلت البلاد عالة على مستعمريها، وتحول النافذون العاملون مع الأميركيين وتحت أعينهم، إلى سرقة ومبتزين وسماسرة، لا ينالون عقاباً، ويزدادون دلالاً بمرور الوقت. هذه من الأسباب الرئيسية التي أفقدت الحكومات المتعاقبة الموالية للأميركيين، شرعيتها في أعين غالبية الناس. ومن المفارقات يقول التقرير «إن البعض وجدوا أنفسهم مضطرين للتوجه إلى (طالبان) لحفظ حقوقهم، إذ وجدوا فيهم ملجأ لفرض شيء من النظام».
هكذا لم يجد الجيش الأفغاني الذي صُرف عليه كل غالٍ ونفيس، حكومة تستحق أن يدافع عنها، أو رئيساً يتمسك به، بعد أن غصت طائرة أشرف غني بالأموال حتى اضطر لترك بعضها في المطار. كما عجزت قيادة الجيش عن دفع رواتب الجنود لشهور قبل الانسحاب، مع أن الجيش كلّف أميركا 85 مليار دولار. أما الشرطة، بحسب ما يقول شهود أميركيون، «فثلث المجندين فيها من مدمني المخدرات أو (طالبان)»، فيما فرق القوات الخاصة التي دربت بعناية، «مكروهة» وتوصف بأنها «قاع البرميل». وبالتالي فالاعتماد على أي من السلكين العسكريين كان أمراً محكوماً بالفشل سلفاً.
أغرقت الولايات المتحدة الدولة المتهالكة بالأموال والمشاريع التي لا تشبه أهل البلاد وحاجتهم. اعتقد القادة الأميركيون أنهم كلما أنفقوا أكثر على تشييد المدارس والجسور والقنوات، ستتحسن تلقائياً الحالة الأمنية، لكن الأمر كان أشبه بمحاولة تقوية جذوة نار محتضرة.
لا يهم ما يحدث بعد خروج الأميركيين، فتلك بلاد أدمن العالم رؤيتها غارقة في الألم والدماء. لكن الغرب كله سيدخل مرحلة جديدة، بملامح أكثر ضبابية، وعلاقات بينية أشد غموضاً وتوتراً، وانكفاء عن التدخلات العسكرية المباشرة؛ ليس لأن الغرب لم يعد يريد القتال في سبيل «تصدير الديمقراطية» وإعلاء شأن «حقوق الإنسان» التي غزا واحتل في سبيل نشرها طوال عشرات السنين، بل لأنه لم يعد قادراً على ذلك.