بقلم : سوسن الأبطح
حالة من الهستيريا سادت في كندا، بعد إقرار ترمب التعريفات الجمركية الجديدة على الجارة الأقرب التي ترسل لأميركا 80 في المائة من صادراتها، أي أنها ربطت عضوياً دورتها الاقتصادية بأميركا، من دون أدنى حذر، بالتالي ستطالها العقوبة الأكبر. كنديون كثر باتوا على قناعة بأن الأمر أبعد من تعريفات، وأن ترمب يريد تركيعهم كي يستسلموا، ويعلنوا طوعاً رغبتهم في الانضمام إلى أميركا. الأوروبيون أيضاً يرددون أن أميركا تريد إخضاعهم. أحد هؤلاء هو وزير الخارجية الأسبق دومينيك دوفيلبان، الذي قال صراحة إن «أميركا تريد السيطرة على الروح الأوروبية».
«صدمة» بالفعل و«هلع» في كندا. ثمة من يصف الوضع بـ«تسونامي» وبـ«الجنون». هناك شعور بالغضب لأن كندا تُعامَل باحتقار. فقد رفض ترمب الرد على مكالمات رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو المتكررة، ثم فرض التعريفات من دون أدنى نقاش أو تبليغ السلطات بالوسائل المعهودة، وأعلن عنها بعد منتصف الليل، وقرأ الكنديون الخبر الأليم، كما كل الآخرين، منشوراً على الصفحة الرسمية للبيت الأبيض. وصف ترودو القرار بـ«الغبي» وتساءل في المقابل عن سرّ النعومة الفائضة بالتعامل مع من سماه «الديكتاتور بوتين».
ما يعلنه ترمب أن الهدف من التعريفات إجبار البلدين الجارين، كندا والمكسيك، على ضبط الهجرة، وإيقاف تدفق المخدرات، لكنها حجة لا تقنعهما. الأوضح أن ما يريده هو إجبار مستثمرين على نقل أعمالهم إلى أميركا، بعد أن فقدت دورها الصناعي بشكل خطر، وأن توفر له التعريفات الجمركية ما تيسر من أموال ليتمكن من تخفيض الضرائب على الأميركيين، فـ«أميركا تنهار»، كما قال إيلون ماسك. وما اتخذ من خطوات بسرعة قياسية هو الوسيلة الأسرع لـ«استعادة الحلم الأميركي» الذي يعد به ترمب.
ما نراه ليس سوى البداية؛ إذ إن أميركا تريد استثمار علاقاتها التجارية بربطها بخدماتها الأمنية. وبحسب ما نشرت «بلومبرغ»، فإن نظرية المستشار الاقتصادي لترمب، ستيفان ميران، تتلخص في أن كل زيادة ضريبية انتقامية تفرض، رداً على التعريفات الجمركية التي قررتها أميركا، سيرد عليها بتقليل الدعم العسكري والحماية الأمنية للدول المنتقمة.
وما ستوقع عليه أوكرانيا، من تنازل عن نصف معادنها النادرة، مجرد بروفة أولى لما سيخضع له الآخرون، وما سيضطرون لدفعه مقابل تأمين حمايتهم. وربما أن أوروبا مستقبلاً وأمنها العسكري سيكونان أيضاً على طاولة مفاوضات لا تقل قسوة، خصوصاً أننا نرى أنه حتى خدمة «ستالينغ للإنترنت» كانت جزءاً من التهديدات في أوكرانيا.
في المقابل، لو فكرت الحكومات بتوقيع استسلامات مذلّة قد لا توافق الشعوب، وستعبّر عن غضبها على طريقتها؛ فقد بدأت الأرفّ تفرغ من المشروب الأميركي في كندا، ويُتداعى للمقاطعة السياحية، وتعليق اشتراكات «نتفليكس»، وكل ما أمكن الاستغناء عنه. وفي فرنسا انخفض مبيع «تسلا» 67 في المائة، ومن لديه «تسلا» يحاول التخلص منها، كي لا يدفع لماسك تكاليف إضافية. حتى في أميركا ثمة من بدأوا يقاطعون «تسلا»، وقد يفعلون ذلك مع غيرها.
الأجواء ضبابية، وكندا تتحضّر للأسوأ، كذلك المكسيك تحاول أن تخفف من حدّة الموقف لعلها تنجو. وأوروبا بعد واقعة إهانة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وطرده من البيت الأبيض أدركت أن الصفحة القديمة طُويَت جدياً، وبدأ التحضير لنظام عسكري أوروبي مشترك.
فما يصرّح به ترمب من وعود ليس لتزجية الوقت أو الترويح عن نفوس الناخبين، وإرضائهم، كما كان يعتقد البعض، بل لديه تصوُّر كامل لعالم جديد، تتكامل فيه الإمبراطوريات القوية، وتقدم الدول الصغيرة خدماتها صاغرة.
ترمب على الأرجح لا يريد أن يتفرغ للصين ليحاربها، بل ليقارعها ويتنافس معها ويكسب المال. ومن دون قناة بنما التي لا يزال يصرّ على استعادتها، ومعادن أوكرانيا، أضف إليها معادن غرينلاند التي ذكّر مجدداً بأنه يريدها؛ يعني أنه يريدها، وكذلك خيرات كندا، ومساحتها الشاسعة، من الصعب أن يقول إنه إمبراطورية بحجم الصين ويوازيها، بل ويتفوق عليها.
فإلى أين يقود ترمب العالم؟