«السرقة» و«المراوغة»، هما ملح التطور، بالنسبة للشركات التكنولوجية؛ ومن دون هذين العنصرين الأساسيين لا يمكنها أن تتنافس، أو يتخطى بعضها بعضاً.
من يتابع برامج الذكاء الاصطناعي التي تقدم خدماتها المذهلة للجماهير العريضة، يلاحظ أنها خلال الأشهر الأخيرة، حققت توثبات هائلة. هكذا أصبحت الترجمة إلى العربية لا تقاس بما كانت عليه، والإجابات عن الاستفسارات وافية، واللغة المستخدمة مقبولة، وخفت الخوف من الخوض في بعض المواضيع الحساسة.
السرّ في التوليدية، حيث إن الآلات التي تمنح المعلومات باتت قادرة على القياس والتحليل والإتيان بنتائج أسرع من البرق. وكلما زادت كمية المعلومات، وتطورت قدرة البرامج على الاستنباط، أتتك بما هو أفضل.
وضع «إكس» خدمة «غروك» حديثاً، في خدمة الجميع، بعد أن كانت حكراً على فئة. يستطيع البرنامج، أن يجيب عن أسئلتك، يحول أي نص تقترحه إلى صورة، يركب لك بصرياً المشهد الذي تتمناه، يكتب لك قصة، يحلل معلومة. إنه الكائن السحري الذي يخرج من الفانوس ليحقق أحلامك. لكن لا شيء يأتي من عدم. وما يقدمه هو خلاصة ما جمعه، مما كتبه أمثالك، على مدى سنوات على الموقع، ومواقع أخرى يتعاون معها.
حين تسأله: «من أين تأتينا بالإجابات؟». لا ينكر «غروك» أنه استثمر في البيانات، ويدافع عن نفسه، بأن من لا يرغب، فما عليه سوى تغيير الإعدادات. أما المنشورات المفتوحة، فهي مباحة للجميع. أي إنه لتركيب لوحة، يقتطع يداً من هنا، ورأساً من فنان آخر، وفضاء من ثالث، ويفعل ما يشاء.
المعضلة ليست في أن البرامج الذكية، تحلل قدراً من البيانات وفيراً، لا يحدّه عقل إنسان، في لحظة من الثانية، وإنما في أنها تستفيد من أسئلتك، وتستدرجك لتجعلك تبوح بما لا يجوز أن تفعل، لأنك تشعر تجاه الآلة بشيء من الحميمية، أو أنك تتعامل مع كائن محايد، ولكنها ليست كذلك. حين يجيبك برنامج «تشات جي بي تي» عن سؤال، فهو غالباً ما ينهي كلامه بسؤالك عن رأيك في الموضوع؟ أو إذا كنت تعرف شيئاً آخر، قبل أن يختم بأنه موجود هنا لخدمتك.
ولما استفزني استدراجه المستمر، قلت له: «أنت تسأل كمن يعمل في جهاز مخابرات». أجاب بكل لياقة: «أنا أسال، كي أؤمّن لك خدمات أفضل في المرات المقبلة. وإن كنت تخشين على بياناتك، فما عليك سوى قراءة الفقرات الخاصة بالخصوصية لأخذ احتياطاتك».
هذه الحجج تشتكي منها المحاكم، التي تحاول الحد من نفوذ الشركات التكنولوجية الأخطبوطية، وتصطدم بالعبارات المنمقة المتحايلة نفسها.
قبل أيام أصدرت لجنة التجارة الفيدرالية الأميركية، تقريراً رسمياً، اتهمت فيه الشركات التقنية التسع الكبرى، مثل «غوغل» و«أمازون» و«ميتا» و«إكس»، بأنها تراقب، وتجمع بيانات مستخدميها، وتسرقها بهدف كسب المليارات كل سنة. ليس ذلك فحسب، بل إن الشركات غضت الطرف عن مستخدمين أطفالاً ومراهقين، وجمعت معلوماتهم واستفادت منها.
وبما أن الجميع يتهرب من مواجهة الحقيقة، فقد قالت اللجنة، إن الشركات «فشلت» في حذف البيانات واحتفظت بها لفترات طويلة جداً، كيلا تتهمها بارتكاب خطاياها عن سوء نية. لكن الشركات أيضاً تكذب، وتتحايل وتتهرب، بالطريقة نفسها التي تتبعها للتخلص من دفع الضرائب.
الذكاء الاصطناعي، بعضنا صار يعده رفيقه ومستشاره، ومترجمه، وحالّ مشكلاته. لذا فإن التطبيق الذي تلجأ إليه، يعرف عنك أكثر من أقرب الناس، الذين قد لا تسرّ لهم بكل ما يجول في خاطرك، وقد لا تسألهم عما تنوي فعله.
كنا نشتكي من المتاجرة بالمعلومات، والتلاعب السياسي وبث الفوضى الاجتماعية، وهذا أصبح من المسلمات، وخضعنا له خانعين، لكن الأمر بات دخولاً إلى حياتنا الحميمة، واختراقاً لخوالجنا، وما يدور في خواطرنا.
لكن، ماذا سيحدث، بعد أن تُعتمد البرامج الذكية بشكل واسع لكتابة النصوص الأدبية، وتدبيج المقالات، ورسم اللوحات الإبداعية، وسطر السيناريوهات السينمائية، وتركيب الصور، وتصميم الديكورات، وحل المسائل الحسابية المعقدة، ووضع المؤثرات الصوتية والبصرية، وتركيب مشاهد الأفلام، وقيادة السيارات. وتصير تفتح لنا الباب وتشغّل المكيف، وتسخن الطعام، ما إن نأمرها بذلك. أي إحباط سيسكننا، وأي شعور بالعجز واللاجدوى!
لوقت قريب جداً، كان الظن أن الآلة لا يمكن أن تبلغ ذكاء البشري وفطنته الإبداعية، لكن بعد شهور من القفزات المتوالية، بات علينا أن نفكّر جدياً بدور الإنسان الجديد، وكينونته ومغزى وجوده.
وباعتراف صديقنا الجديد «غروك»، فإن هذه الثورات التكنولوجية الكبرى، لا بد أنها ستتسبب في تحولات سياسية غير منظورة، بسبب فقدان عشرات الألوف أعمالهم، وتغير الديناميكيات الاقتصادية. ولن تبقى العمليات الانتخابية على ما هي عليه، بعد تحقق القدرة على تحليل البيانات، والتنبؤ بخيارات الناخبين المستقبلية.
ما سيأتي ليس من صنع البشر، وتحت سيطرة خططهم المحكمة، بل بفعل تدحرج سريع، تتسبب به التكنولوجيا في أكثر من مجال، وسيؤدي بالجميع إلى حيث لم نكن ننتظر.