هيروشيما تتكلم

هيروشيما تتكلم

هيروشيما تتكلم

 العرب اليوم -

هيروشيما تتكلم

بقلم : سوسن الأبطح

مؤثرة زيارة هيروشيما، والعالم يستذكر مرور 80 سنة على الكارثة الكبرى. تذهب إليها مشحوناً بذاكرة الموت الجماعي الذي لم تسمع عن شبيه له في أي مكان آخر. لكنك تصدم بأنها لا تختلف عن أي مدينة يابانية بنظافتها، وأناقتها، وتطاول عمائرها، ومجمعاتها التجارية. تشعر بأن أهل هيروشيما، المنتشرين في المطاعم والمقاهي، تجاوزوا تاريخهم الذي هزّ ضمائر البشرية، ودخلوا الحداثة فاتحين لا متسولين، وباتوا في مكان آخر غير الذي يتوافد السياح زرافات، من كل صوب، بحثاً عنه.

لكن مرشدتنا، تنبهنا منذ البدء، وهي تجول بنا في الحدائق العامة، أن مدينتها لم تركع للموت، ولم تبق حبيسة الأمس، وأنها تنظر إلى المستقبل، وبدل أن تندد وتبكي، نصبت أجراس السلام التي يأتي الزوار ليقرعوها ويلتقطوا الصور أمام ساحة النصب التذكاري الضخم لضحايا أول قنبلة نووية في تاريخ البشرية. صحيح أن ناغازاكي استهدفت بقنبلة ثانية بعد ثلاثة أيام فقط، لكن هيروشيما هي التي أصابتها الشهرة الأليمة؛ لأنه صادف وكانت الفاتحة الدموية بها.

يومها قتلت القنبلة ربع سكان هيروشيما على الفور، وبلمح البصر، وربعاً آخر بسبب آثار التسمم الإشعاعي والسرطان. لم يفهم الضحايا حينها ما حلّ بهم. أحد لم يكن على دراية بما رميت به المدينة. هم رأوا أجساداً تبخرت واختفت كلياً، تاركة رسماً شبحياً مكانها، شاهدوا جثثاً محترقة، وأخرى مختنقة، وجراح تنزف من جلود مهترئة لا يعرفون كيف يداوونها. تروي المرشدة وهي تقف مكان إلقاء القنبلة على جسر أيووي المشرف على نهر أوتا، أن القنبلة تسببت بدمار كامل امتد على مساحة قطرها يبلغ ميلاً، أما الخراب فامتد على مدى ميلين اثنين. يبحث الناجون عن ماء يشربون فلا يجدونه، أو طعام فلا يعثرون عليه. هرعوا إلى النهر، وأكلوا ما وجدوه أمامهم، فماتوا أيضاً من التلوث الإشعاعي، وما كان لهم به من دراية أو معرفة.

لم يصمد من عصف القنبلة التي سميت «ليتل بوي» أو «الصبي الصغير» ربما من باب السخرية أو الاستخفاف، سوى مبنى القبة الذي ترك للذكرى، بلونه الأسود المتفحم، وجدرانه المتهالكة. ومكان آخر، هو قبو أو غرفة صغيرة تحت الأرض، تقودنا إليها مرشدتنا، وقد أقيم فوقها مركز تجاري حديث يبيع الماركات الغربية ويعج بالمتسوقين. لكن السياح يدخلون هذا المجمع الأنيق عابرين إلى القبو، ليشاهدوا المكان الذي نزل إليه أحد الموظفين بالمصادفة لحظة إلقاء القنبلة بحثاً عن ورقة احتاج إليها زملاؤه أثناء اجتماع عمل، ماتوا جميعهم، وبقي هو بسبب وجوده في القبو.

ما عدا ذلك، هيروشيما تعيش كداعية سلام، يحجّ إليها نوع من السياح يقرأ التاريخ ويتعظ، يمقت العنف ويخشى الجنون. هناك أيضاً القلقون على البيئة والماقتون للأسلحة، كما الشباب الباحث عن آثار التاريخ الأسود للحروب. لهؤلاء وللتذكير بهمجية الاقتتال، وعبثيتها، أقيم «متحف السلام» الذي تعرض فيه شهادات، ومخلفات القنبلة المحترقة، وزجاجات ذابت بفعل الضغط، وساعة توقفت بيد صاحبها لحظة الانفجار، وصحف، وصور كثيرة مؤلمة. قد لا تكون مصادفة أن تلاحظ تشابهاً لا يمكن إنكاره، بين مشاهد هيروشيما بعد القصف النووي، ولقطات صور غزة المنتشرة اليوم. هذه مفارقة فظيعة، تجعلك تتوقف برهبة أمام المعروضات، وتقشعرّ من المقارنة المفزعة.

للأسف، بالتزامن مع ذكرى مرور ثمانية عقود على مأساة هيروشيما، وتدفق دعاة السلام على المدينة، مؤازرة لرسالتها ودعماً لصوتها، أعلنت أميركا عن تطوير قنبلة نووية جديدة، تفوق في قدرتها التدميرية 24 مرة قنبلة هيروشيما.

لا بل إن التحذيرات تتزايد من تصاعد سباق التسلح النووي، حيث تصل زنة بعض الرؤوس إلى ألف كيلوغرام. التقديرات أن روسيا بحوزتها أكثر من خمسة آلاف رأس، ولأميركا مثلها، وخمسمائة رأس على الأقل في الصين. يقال إن استخدام مائة رأس فقط، كفيل بأن يتسبب بشتاء نووي، يحيل سكان الأرض إلى جوعى لا يجدون بعده ما يقتاتون به. فما مدعاة تصنيع ما يمكنه تدمير الأرض مرات عدة؟

سباق التسلح النووي يشمل دولاً عديدة، بينها بريطانيا، وفرنسا، والهند، وباكستان، ولا ننسى إسرائيل التي سعت حتى قبل تأسيسها لحبك علاقات وثيقة مع فيزيائيين، بينهم أوبنهايمر «أبو القنبلة النووية» الأميركية، لتؤمن سلاحها الفتّاك. ومنذ ذلك الحين تزيد مخزونها بالسر، وتدعي أنها مهددة من جيرانها الذين يقاتلونها بالحجر والرشاش وصواريخ التحضير المنزلي.

هيروشيما ليست مجرد ذكرى، بل هي إنذار حي، ونموذج بدائي وصغير عما يمكن أن يحل بسكان الكوكب. لهذا غالباً إذا زرت المدينة، ستصادف جمعية الناجين من كارثة هيروشيما الـ«هيباكوشا»، ومنهم من لا يزالون أحياء يروون قصصهم.

كان حكيماً ورؤيوياً المهاتما غاندي، حين قال بعد أن علم بما حلّ بهيروشيما وناغازاكي من مقتلة: «ما لم يجنح العالم الآن إلى اللاعنف، فسوف يؤدي ذلك إلى انتحار مؤكد للبشرية». لكن الناس في أغلبهم لا يتّعظون.

arabstoday

GMT 17:42 2025 الخميس ,24 إبريل / نيسان

سر الرواس

GMT 17:40 2025 الخميس ,24 إبريل / نيسان

حلّ «إخوان الأردن»... بين السياسة والفكر

GMT 17:38 2025 الخميس ,24 إبريل / نيسان

دارفور وعرب الشتات وأحاديث الانفصال

GMT 17:37 2025 الخميس ,24 إبريل / نيسان

أقصر الطرق إلى الانتحار الجماعي!

GMT 17:35 2025 الخميس ,24 إبريل / نيسان

بعثة الملكة حتشبسوت إلى بونت... عودة أخرى

GMT 17:34 2025 الخميس ,24 إبريل / نيسان

بقايا «حزب الله» والانفصام السياسي

GMT 17:29 2025 الخميس ,24 إبريل / نيسان

الهادئ كولر والموسيقار يوروتشيتش

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

هيروشيما تتكلم هيروشيما تتكلم



نانسي عجرم تتألق بالأسود اللامع من جديد

بيروت ـ العرب اليوم

GMT 12:43 2025 الأربعاء ,23 إبريل / نيسان

السودان .. وغزة!

GMT 11:36 2025 الأربعاء ,23 إبريل / نيسان

عودة النّزاع على سلاح “الحزب”!

GMT 11:38 2025 الأربعاء ,23 إبريل / نيسان

ماذا تفعل لو كنت جوزف عون؟

GMT 15:55 2025 الأربعاء ,23 إبريل / نيسان

زلزال عنيف يضرب إسطنبول بقوه 6.2 درجة

GMT 02:27 2025 الأربعاء ,23 إبريل / نيسان

توقعات الأبراج اليوم الأربعاء 23 إبريل / نيسان 2025

GMT 11:52 2025 الأربعاء ,23 إبريل / نيسان

ثمة ما يتحرّك في العراق..

GMT 15:56 2025 الأربعاء ,23 إبريل / نيسان

زلزال بقوة 4.3 درجة يضرب ولاية جوجارات الهندية

GMT 15:51 2025 الأربعاء ,23 إبريل / نيسان

وفاة الإعلامى السورى صبحى عطرى

GMT 15:48 2025 الأربعاء ,23 إبريل / نيسان

"بتكوين" تقفز لأعلى مستوى فى 7 أسابيع

GMT 03:26 2025 الخميس ,24 إبريل / نيسان

غارات أميركية تستهدف صنعاء وصعدة

GMT 03:29 2025 الخميس ,24 إبريل / نيسان

توقعات الأبراج اليوم الخميس 24 إبريل / نيسان 2025
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab