بقلم - محمود محيي الدين
في سرديات الإقناع المنطقي البسيطة يقتطف المتحدثون شطر بيت من الشعر العربي القديم نصه: «متى يستقيم الظل والعود أعوج - وهل ذهبُ صرف يساويه بهرج».
ومن عجائب ما تسوقه تقارير عن الاقتصاد العالمي احتفاؤها المبالغ بمظاهر لما تعتبره من علامات المتانة والصمود اكتفاءً منها بالتركيز على رصد بعض المؤشرات لأحوال بعض البلدان المتقدمة. وما تخفيه إحصاءات ومتوسطات رقمية لبعض المتغيرات التي تظهر على السطح لا تستطيع أن تواري ما يعانيه الاقتصاد العالمي من ضعف، وما يعتري نظامه من تقادم وما أصاب مؤسساته من ترهل في ما يمكن أن يطلق عليه بالانحدار الكبير.
وفي العدد الأخير لمجلة «الإكونوميست» كان موضوعها الرئيسي عن النظام الاقتصادي الجديد جارت في مطلعه ما يساق عن تعافي الاقتصاد العالمي رغم الصدمات المتوالية: فالاقتصاد الأميركي يشهد نمواً رغم الحرب التجارية المشتعلة مع الصين، والماكينة الألمانية التي تساند الاقتصاد الأوروبي تتفادى آلام خسارتها لإمداد الغاز الطبيعي الروسي بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، وتشير إلى أن الحرب في الشرق الأوسط لم تسفر عن صدمة بترولية، والاضطرابات في البحر الأحمر لم تظهر آثاراً سلبية تُذكر على التجارة العالمية كنسبة من الناتج العالمي. ولكنها تعود مؤكدة على أن النظرة الأعمق في الاقتصاد تظهر هشاشته، وأن النظام الذي يدير أموره منذ الحرب العالمية الثانية قد أكل عليه الدهر وشرب وتراه وقد أوشك على الانهيار. وأن عوامل متعددة قد تدفع العالم إلى حالة من الفوضى؛ إذ تعتقد القوى المتغطرسة أنها على حق، وبذلك تكون الحروب نتيجة طبيعية كسبيل لحسم النزاعات.
وفي حوار استضافه الأسبوع الماضي الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي في دولة الكويت، ضم مؤسسات مجموعة التنسيق العربية ولجنة المساعدة الإنمائية لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، ألقيت كلمة عن دور التمويل الدولي في علاج ما تعانيه التنمية من أزمة وانحراف عن مسارها. حذرت من اتساع الفجوة بين البلدان النامية والدول المرتفعة الدخل مع تراجع في صافي التدفقات المالية حتى وصل إلى أرقام سالبة، وتعويق حركة التجارة الدولية وتراجع الاستثمارات الأجنبية المباشرة كنسبة من الناتج المحلي وفرض قيود على التعاون التكنولوجي. فضلاً عن الآثار السلبية للسياسات الصناعية المتبعة في البلدان المتقدمة وانتهاك بعض إجراءاتها قواعد العمل وفقاً لمقررات منظمة التجارة الدولية التي تشهد تجاهلاً وعدم اكتراث بقواعدها. كما أن بعض الإجراءات المتبعة في سبيل التحول للاقتصاد الأخضر وتخفيض الانبعاثات الضارة بالمناخ تتستر وراءها أو يترتب عليها إجراءات حمائية تعوق التجارة وتضر باستثمارات البلدان النامية. فاقتصادات عالم الجنوب أصبحت مشاريعها التنموية الخضراء بين مطرقة وسندان. فالمطرقة تتمثل في ما يعرف بآلية تعديل الكربون عبر الحدود التي فرضها الاتحاد الأوروبي على صادرات قادمة إليه من منتجات الحديد، والصلب، والألمنيوم، والأسمدة والأسمنت. وفرضت المملكة المتحدة إجراءات مماثلة على القطاعات ذاتها وأضافت إليها منتجات السيراميك. وتدرس الولايات المتحدة فرض آليات مماثلة على وارداتها.
أما السندان فهو ما ارتبط بالسياسة الصناعية الجديدة والتي تتجلى في حالة الولايات المتحدة بصدور ثلاثة قوانين في عامي 2021 و2022 للاستثمار في البنية الأساسية، والرقائق وأشباه الموصلات والتحول الأخضر. وهي قوانين صنّفها بنك الاستثمار الأميركي (جيه بي مورغان) بأنها تتشكل من مزيج من الإنفاق الحكومي وفرض قيود على التجارة والاستثمار. ورصد البنك المذكور إجراءات مماثلة من اليابان والاتحاد الأوروبي وكوريا الجنوبية.
تذكرنا مقالة «الإكونوميست» مرة أخرى بدروس التاريخ لظروف مشابهة انتهت بحرب شاملة عُرفت بالحرب العالمية الأولى التي قضت على مغانم العهد الذهبي العالمي للعولمة، مع ما قضت عليه من أرواح بريئة ودمار شامل ومهّدت لحرب أخرى بعدها أكثر بشاعة ودماراً. وفي كتاب صدر لي في عام 2022 بعنوان «في التقدم: مربكات ومسارات» قارنت في مواضع عدة بين الأحوال الراهنة لعالمنا التي تشهد عجزاً في الثقة وفائضاً في الأزمات، والفترة السابقة لحرب لم يردها أحد ولم يتوقع حدوثها أحد، ولكنها رغم ذلك اندلعت. فقد اقتتل في الحرب العالمية الأولى 70 مليون جندي مات منهم 9 ملايين وقُتل 7 ملايين آخرين من المدنيين، وأصيب عشرات الملايين بعاهات لازمتهم مدى الحياة، وإصابات جسيمة عانوا منها حتى وافتهم المنية. كما أسفرت هذه الحرب الكبرى عن مذابح تلتها، كما تفشت الأوبئة فقتل بسببها أضعاف هذه الأرقام، كما مهدت للحرب العالمية الثانية بدمار أوسع وبخسائر أكبر، وكان من الممكن إنهاء هذه الحرب الأولى، التي لولاها ما كانت الثانية، إذا ما توافق قادة القوى الكبرى على حسم نزاعاتهم سلماً.
ولكن الحروب من هذا النوع تحدث لأن من يدخلها يظن أنه سينتصر ثم تنتهي بخسائر للكافة على النحو الذي رصدته المؤرخة باربارا توكمان في كتابها العمدة عن الحرب العالمية الأولى تحت عنوان «بنادق أغسطس».
تسود الاقتصاد العالمي تصرفات الحمقى بتبادل الأذى والإضرار بقواعد التجارة الدولية والاستثمار، وتترك فيه البلدان لتنهشها أعباء الديون بلا آليات فاعلة للتسوية أو إعادة الهيكلة. وأُهملت فيه مؤسساته المالية الدولية بلا دعم يزيد رؤوس أموالها التي تحتاج إليها للقيام بعملها في مساندة التنمية، وأُضيعت سنوات في مبادرات شكلية تحت مسميات للإصلاح بلا مضمون لتطوير لحوكمتها أو زيادة فاعليتها بالارتقاء بالحوكمة وعدالة وكفاءة تمثيل البلدان المختلفة فيها. هذه المبادرات تأتي مرة تحت مسمى رفع كفاءة استخدام رؤوس الأموال ومرة بدعوى إعداد «خريطة طريق للتطور» وهي تعاني من تهافتها واستهلاكها للوقت وعدم تحديدها مواقيت ملزمة بمبالغ محددة لزيادة رؤوس الأموال. أرى ما يجري خريطة طريق للتطور نحو الانكماش حتى الفناء بما يعجل بنهاية ما تبقى من ترتيبات نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية.