بقلم د. محمود محيي الدين
شهد هذا الشهر تناولاً متفاوتاً بين السلبية والإيجابية للأصول المالية المشفرة (ولأغراض هذا المقال نستعمل اصطلاح «الكريبتو» عليها) والعملات الرقمية للبنوك المركزية. وانشغل المتابعون لشؤون المال والتكنولوجيا بملحمة خروج ودخول المدير التنفيذي لشركة الذكاء الاصطناعي «أوبن إيه أي» التي تثير تساؤلات حول قواعد الحوكمة المعمول بها ومدى كفايتها لتحقيق الأهداف التجارية للشركات التكنولوجية، وكذلك المنصات الرقمية بما فيها المعنية بتداول المعلومات وتنفيذ المعاملات والصفقات، ومدى انصياعها لقواعد حماية المتعاملين وحقوقهم والالتزام بالمعايير الأخلاقية وأمن المجتمع وأفراده من انفلات الذكاء الاصطناعي بما يهدد السلم العام، وهو ما حذر منه جمع من العلماء والباحثين في خطاب مفتوح نُشر في شهر مارس (آذار)، وتوصيتهم «بهدنة» في سباق تطوير نماذج جديدة أكثر تقدماً وخطراً من المتعارف عليه حالياً حتى يتم إرساء قواعد فعالة للحوكمة.
وفي مقال لجون ثورنيل، الكاتب المتخصص في المشروعات الناشئة، أكد أن حمى التسارع في تطوير أنواع من تلك النماذج المتقدمة للذكاء الاصطناعي العالية المخاطر قد ارتفعت منذ اقتراح تلك الهدنة. هذا يثير مجدداً قضية قدرة نظم الحوكمة المعمول بها على تحقيق التوافق المطلوب بين الابتكار وتحقيق الأرباح وضرورة توفير الضمانات المطلوبة للأمن الداخلي للمجتمعات والسلم الدولي اللذين صارا أكثر عرضة للمخاطر والتهديد أكثر من أي وقت مضى منذ الحرب الباردة، بل منذ الحرب العالمية الثانية؛ نظراً لتأجج الصراعات الجيو - سياسية.
وفي هذه الأثناء واقتراباً أكثر من موضوعنا عن مستقبل العملات في ظل الحروب والديون مع التركيز على البعد التكنولوجي في تطوير العملات؛ أشير إلى ما نشرته في هذه الصحيفة الغراء عن ما يعرف بـ«الكريبتو» تحت عنوان «أزمة مشفرة» في عام 2018 ومحاولات شركة «فيسبوك» لإصدار عملة «الليبرا» في عام 2019 على أن يبدأ العمل بها في العام التالي؛ وهو ما قوبل باعتراضات من الجهات الرقابية لاعتبارات الاستقرار المالي والنقدي وحماية الخصوصية والحقوق، رغم حجج ومبررات سيقت لمطوري العملات الرقمية المشفرة المستقلة من نوع زيادة الكفاءة وتخفيض التكلفة وتحقيق الشمول المالي، وقد استعرضت في حينها دوافع الجانبين وما انتهى إليه الأمر من عدم السماح «الليبرا» بالظهور. وقد ذكرت في مقال نُشر في أبريل (نيسان) 2021 عن مستجدات دور الدولة وعملتها، أن «المجال الأكثر احتمالاً للتطور هو (العملات الرقمية للبنوك المركزية)، ومن خلالها ستكون للبنوك المركزية صيغة إلكترونية لعملاتها التي يمكن أن يستخدمها عموم الناس مباشرة من دون وسيط مصرفي لإجراء المدفوعات وتسوية المعاملات من خلال محفظة أو تطبيق إلكتروني؛ وبهذا تكون قد استفادت البنوك المركزية من المستجدات التكنولوجية التي تتميز بها الأصول المشفرة والعملات المستقرة مع قوة الإبراء والسند السيادي الذي تتمتع به البنوك المركزية. فلم تكن البنوك المركزية لتفرط في احتكار ريع الإصدار النقدي لعملتها، أو تزيد من تعقيدات إدارتها للسياسة النقدية».
ولكن هذا لم يمنع انتشار «الكريبتو» مثل «بيتكوين» وأخواتها رغم التقلب العنيف لأسعار هذه الأصول المالية المشفرة. وما يصيب متعاملي «الكريبتو» بمزيد من الذعر هو ما تعرضت له منصات تداولها مثلما حدث مؤخراً في منصة «بينانس» من تلاعبات استوجبت إقالة رئيسها تشانغ بينغ زاو، الذي قدم نفسه يوماً بأنه المنقذ النظيف لهذه الصناعة. وتم تغريمه منفرداً بمبلغ 50 مليون دولار من قِبل المحكمة الفيدرالية لسياتل، والتي أصدرت أيضاً حكماً بغرامة على الشركة من الأعلى في تاريخ غرامات الشركات في الولايات المتحدة؛ إذ بلغت 4.3 مليار دولار. وتشير مناقشة وقائع التلاعب في منصة «بينانس» على النحو الذي أوردته الكاتبة جيليان تات في صحيفة «الفاينانشيال تايمز» منذ أيام إلى أمرين: الأول، هو أن تتبع المعاملات التي تجرى على «الكريبتو» رغم صعوبته أيسر بكثير من تتبع المعاملات النقدية بالبنكنوت رغم احتفاء مصدري المشفرات بسرية المعاملات وخصوصية المتعاملين، وأن تظل أسماؤهم مجهولة، وهو ما لم يعد مضموناً في ظل تطور تكنولوجيا الرصد والتتبع. الأمر الآخر، هو عدم وجود تشريعات قانونية كافية حتى الآن لتنظيم هذه الصناعة حماية المتعاملين فيها، بما يضطر جهات الرقابة إلى إعمال ما يستطيعون من إجراءات محددة في حدود سلطاتهم الإشرافية لحماية الأسواق.
ومن ناحية إيجابية في تطور الأسواق الرسمية ودور البنوك المركزية في إصدار عملاتها الرقمية المشفرة بما شهده الملتقى السنوي للتقنية المالية الذي عُقد في سنغافورة منتصف هذا الشهر، حيث أُعلن من قِبل مديرة صندوق النقد الدولي كريستالين جورجيفا، أن 60 في المائة من البنوك المركزية هي للبلدان النامية. والتي أشارت أيضاً إلى أن نجاح هذه العملات سيعتمد على تكامل السياسات وتجاوب القطاع الخاص معها، وأضيف أهمية الإدراك المبكر من خلال التوعية المالية طبيعة احتياجات عموم الناس. فالتوعية المالية طريق ذو اتجاهين كان يُظن خطأ أنه ينساب في اتجاه واحد من الحكومات ومؤسسات الرقابة المالية والبنوك المركزية، ولكن التجربة بخاصة منذ الأزمة المالية العالمية أوضحت الحاجة المتبادلة إلى التواصل بشأن المستجدات التكنولوجية والابتكارات المالية وتأثيرها على المجتمعات والأسواق. والحاجة اليوم إلى هذا التواصل أكبر مع تسارع استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي.
وفي حديث مديرة صندوق النقد ما يلفت النظر إلى الحاجة إلى بناء العملات الرقمية للبنوك المركزية أنها يجب أن تيسر المدفوعات المالية عبر الحدود لتيسير التجارة والاستثمارات والتحويلات «فهي الآن مكلفة وبطيئة ومتاحة للقلة». وهو ما يؤكد أهمية استمرار البحث عن البدائل في ظل أوجه القصور القائمة من الاستخدام المعتاد لما يسمى بالعملة الصعبة.
ومع أهمية ما سنتتبعه من تغيرات تكسبها التكنولوجيا للعملة والأبعاد المختلفة للتعامل بها، لكن شكل العملة لا يغير من الأسس البديهية التي يُسترشد بها لتقدم الاقتصاد، فليس منها حتماً نوع العملة سلعية أو معدنية أو ورقية أو بلاستيكية أو حتى رقمية.