عن خرافات القوة الناعمة

عن خرافات القوة الناعمة

عن خرافات القوة الناعمة

 العرب اليوم -

عن خرافات القوة الناعمة

بقلم: د. محمود محيي الدين

من أسوأ ما يبتلى به عموم الناس وصناع السياسات أن تُقتلع آراء من سياقها اقتلاعاً فتسلط عليهم، وكأنها باتت من قوانين الطبيعة ونواميس الكون، فتتمتع بحصانة الاستناد إلى أسماء رنانة وتقارير واسعة الانتشار ومؤشرات ومقاييس تلبسها رداء العلم. ومن المفاهيم السيارة في الملعب الدولي ما يتردد عما يسمى القوة الناعمة وقدرتها على إقناع الآخرين وتشكيل تفضيلاتهم واجتذابهم وتغيير سلوكهم، من دون اللجوء إلى العنف، وذلك باستخدام أدوات متنوعة للثقافة والفنون وغيرهما.

والدولة ذات القوة الناعمة من المفترض أن تحقق التغييرات المرجوة لها دون استغلال لتفوقها العسكري بالحرب، أو لقدراتها الاقتصادية بتقييد التبادل التجاري والاستثمارات البينية وحركة العمالة أو فرض حظر وعقوبات تجارية ومالية. والدولة بذلك يتحقق لها المراد دون إجبار لغيرها، وفقاً لرأي عالم السياسة الأميركي جوزيف ناي الذي شغل مناصب تنفيذية في الإدارة الأمريكية، كما كان عميداً لكلية كينيدي بجامعة هارفارد.

والقوة الناعمة، وفقاً لجوزيف ناي، ليست يسيرة الاستخدام دائماً؛ فمنها ما لا يقع تحت سيطرة الحكومة المركزية وتوجيهاتها المباشرة، كما أن تأثيراتها غير مباشرة وعادة ما تأخذ وقتاً طويلاً حتى تتشكل وتتطور وتحدث التأثير المطلوب. كما ندرك أن من الأدوات الثقافية والفنون ما قد لا يحظى بقبول الآخر، وقد يثير استهجاناً ونفوراً. ولنا فيما كان من بعض ما تم عرضه في افتتاح أولمبيات باريس الأخيرة مَثلٌ.

ويجدر بنا الاستناد إلى الرأي السديد للعلامة ابن خلدون الذي لخّصه في عنوان فصل في مقدمته الشهيرة «في أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده». ووفقاً لهذا؛ فمن العبث الالتفات إلى ما يروّجه البعض عن القوة الناعمة، فيسلخونها منفردة من عناصر القوة الشاملة وعماديها الرئيسيين في الدول والمجتمعات ذات الاعتبار في الماضي والحاضر والمستقبل، وهما تقدم الاقتصاد ومتانته، وقوة آلة الدفاع ومنعتها. ومن البديهي ألا يتقدم اقتصاد أي دولة، أو يُطمأن إلى أمنها واستقرارها، إلا بامتلاكها ناصية علوم العصر وفنونه وآدابه. إذن، فهي القوة الشاملة التي يجب أن يعوّل على عناصرها مجتمعة ومكتملة ومتعاضدة، لا بديل عن الناعم الأملس منها أو الصلد الخشن.

وما أرى كثرة ترديد مُبالَغ فيه لمآثر القوة الناعمة في بلدان إلا عند افتقادها لعنصري المنعة، والقوة الاقتصادية التي لن تجدي، في غيابهما، أي قوة ناعمة نفعاً. كما أن القوة الناعمة لن تحقق أثرها إلا إذا أدرك المخاطب بها أن وراءها قوة ردع، وهجوماً إذا اقتضى الأمر لتحمي مصداقية استخدامها. ولا يفيدنا أنصار القوة الناعمة بكيفية قيامها منفردة بتغيير السلوك لمن لا يريد طوعاً تغييره، ولا يخبرونا بطرائق معتمدة لتبيان أثرها المرتبط بها وحدها، ولا بأسلوب لتتبع فاعليتها منذ تدشين هذه القوة حتى تبلغ هدفها المراد.

لم تغب حتماً خصائص ومعالم تنوع القوة الناعمة البريطانية عن باتريك بورتر، أستاذ الأمن الدولي والاستراتيجية بجامعة برمنغهام البريطانية، وهو يكتب مقاله عن المؤشر الدولي للقوة الناعمة وتصنيفاته للدول بين متقدم ومتأخر. فهو لا يحتفي بأن بلاده تتقدم في هذا المؤشر، ووضعها الدولي الفعلي بمعايير الامتياز والسبق الدولي متراجعة نسبياً في عام 2024 عما كانت عليه عند أزمة السويس في عام 1956، عندما ظهر جلياً أن الغلبة في المعترك الدولي لم تعد لبريطانيا، بل كانت للرئيس الأميركي دويت أيزنهاور الذي «أقنعها بنعومة» بالتفوق العسكري والاقتصادي لبلاده. ولم تزل بريطانيا صاحبة الإرث التاريخي العريق تباهي به مبانيها ومتاحفها، وتتنوع مظاهر ما يمكن إطلاق عليه قوى ناعمة من كرة القدم إلى فنون الشاشتين الصغيرة والكبيرة والمسرح، وما زالت تخرج أهم مطبوعات الصحافة ومنتجات الإعلام. ولكن هذا كله، وفقاً لبورتر، في ميزان القوة ما هو إلا «بلسم نفسي» لآثار تراجع الوجود المادي للقوة.

إن ما يعول عليه ويستند إليه هو القوة الشاملة في سباق الأمم. ولنا في سقوط الاتحاد السوفياتي بآلته العسكرية الرهيبة من دون طلقة رصاص واحدة توجه لكيانه عِبرة. فقد غاب عنه مقوم مهم من مقومات القوة وهو متانة الاقتصاد وتنافسيته وتطوره، بسبب سياسات قضت على بواعث المنافسة وإقدام القطاع الخاص، وكبح الأفكار الخلاقة والإبداع في مجتمع مع تكبيل الحريات. فهل انعدمت من السوفيات آلتهم العسكرية والنووية الغاشمة، أو منعت رقصات البولشوي، وهي بالمناسبة محسوبة من القوى الناعمة؟ إنها حقاً القوة الشاملة التي إن غاب أحد عناصرها تعطلت باقي عناصرها وكأنها لم تكن ناعمة أو خشنة على السواء.

لمثل هذا وجّه ماريو دراجي مقولته المحذّرة للاتحاد الأوروبي بأنهم عرضة «لتهديد وجودي». وهذا ملخص للتقرير الذي أشرف عليه بأنهم إن لم يأخذوا بأسباب الاستثمار للتعجيل بالابتكار والتطوير لدفع النمو، وإن لم يستثمروا في الطاقة الجديدة والمتجددة، وإن لم يستثمروا في تطوير صناعات المستقبل والدفاع ومقومات التحول الرقمي فمستقبلهم مهدد. قد يرى أبناء عالم الجنوب بنظرتهم لأوروبا أن لها من أوجه التقدم والثراء والحريات ما يكفيها، ولكن يقول المتنبي:

ولم أرَ في عيوب الناس شيئاً

كنقص القادرين على التمام

فما بالك بمن توقف في سباق الأمم عند منتصف المضمار حائراً، بل ما بالك بمن لم يبدأ بعد في السباق، منفقاً قدرته في اقتفاء آثار السابقين وماضيهم السحيق، أو في ندم لعدم اللحاق بالمتقدمين.

 

arabstoday

GMT 06:28 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

يتفقد أعلى القمم

GMT 06:24 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

سوريا و«تكويعة» أم كلثوم

GMT 06:23 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

تحولات البعث السوري بين 1963 و2024

GMT 06:20 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

كلاب إسرائيل وجثث الفلسطينيين!

GMT 06:19 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

وإني لحُلوٌ تعتريني مرارةٌ

GMT 06:18 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

الهروب من سؤال المصير

GMT 06:17 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

سوريا والنظام العربي المقبل

GMT 06:15 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

جنبلاط وإزالة الحواجز إلى قصرَين

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عن خرافات القوة الناعمة عن خرافات القوة الناعمة



الملكة رانيا تجسد الأناقة الملكية المعاصرة في 2024

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 20:02 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

ألبانيا "جزر المالديف الأوروبية" أفضل وجهة سياحية لعام 2025
 العرب اليوم - ألبانيا "جزر المالديف الأوروبية" أفضل وجهة سياحية لعام 2025

GMT 11:29 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

تامر حسني يحقق حلم محمد رحيم بعد وفاته
 العرب اليوم - تامر حسني يحقق حلم محمد رحيم بعد وفاته

GMT 07:38 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء

GMT 09:07 2024 الخميس ,19 كانون الأول / ديسمبر

عن الرئيس ورئاسة الجمهورية!

GMT 04:30 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

قصف متفرق على أنحاء غزة والاحتلال ينسف مباني في جباليا

GMT 18:10 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

تكريم توم كروز بأعلى وسام مدني من البحرية الأميركية

GMT 10:07 2024 الخميس ,19 كانون الأول / ديسمبر

أغنى قطة في العالم تمتلك ثروة تفوق ضعف ثروة توم هولاند

GMT 12:54 2024 الخميس ,19 كانون الأول / ديسمبر

كاليدو كوليبالي ينفي أنباء رحيله عن الهلال السعودي

GMT 13:17 2024 الخميس ,19 كانون الأول / ديسمبر

راموس يرفض اللعب في كأس العالم للأندية 2025

GMT 13:27 2024 الخميس ,19 كانون الأول / ديسمبر

منافسة إسبانية سعودية لضم الإنكليزي ماركوس راشفورد
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab