عن عموم الناس والتقارير الدولية

عن عموم الناس والتقارير الدولية

عن عموم الناس والتقارير الدولية

 العرب اليوم -

عن عموم الناس والتقارير الدولية

محمود محيي الدين
بقلم: د. محمود محيي الدين

يحفل شهر ديسمبر (كانون الأول) من كل عام باستعراض نوعين من التقارير الاقتصادية والمالية الصادرة عن جهات شتى؛ النوع الأول يرصد ما جرى في الشهور السابقة منذ بداية العام الموشك على الانتهاء، والنوع الثاني ينشغل بتوقعات للعام الجديد. وتجد احتفاءً مبالغاً فيه بهذه التقارير المسماة بالدولية إذا جاءت بمؤشرات إيجابية. وقد اتسعت صفة الدولية هذه لتشمل مجموعة شديدة التباين من النشرات والإصدارات، منها ما يصدر من منظمات ومؤسسات دولية حكومية وغير حكومية رصينة، ومنها ما يستند إلى جهود معتبرة لفرق عمل متخصصة، ومنها ما لا تعرف منهجاً له أو مرجعاً.
وتكثر الإشارة إلى إصدارات بعينها لا لشيء يميزها إلا أنها كُتبت بلغة أجنبية، أو أنَّ جهة الإصدار ذات اسم رنان. وتتزايد حالات الاجتزاء المتعمد والانتقاء المتحيز وفقاً للميل السياسي بما يشوه المعلومة فتضيع الحقيقة ويضل المتلقي، فيتساءل عموم الناس عن تناقض بين هذه التقارير وما تفصح عنه أحوالهم وما يجري في محيطهم.
واللجوء إلى التقارير الدولية قد يكون لإظهار الاحتكام لجهة محايدة، كمن يستعين بحكم أجنبي في مباريات كرة القدم بين متنافسين. هذا وإن استمدت هذه التقارير مصادر معلوماتها في الأصل من ذات الجهات المحلية دون مراجعة تُذكر، فكأنها بضاعة رُدّت في النهاية لأصحابها بخيرها وشرها.
ومن مشكلات النقل غير الدقيق أخطاء التعميم، كمن يستخدم مؤشراً بعينه إذا أصابه تحسن على أن فيه الخير كله، وإن تراجع فهي طامة كبرى. وأكثر المؤشرات عُرضة لإساءة الاستخدام هو معدل النمو الاقتصادي. وفي نقاش مطوّل مع مجموعة عمل درست محددات النمو والتنمية قادها الاقتصادي الحائز جائزة نوبل مايكل سبنس منذ أكثر من عشر سنوات، تبين بجلاء أن النمو ضروري لتحقيق التنمية وتحسين أحوال عموم الناس ولكنه غير كافٍ وحده، وأن الدول التي حققت وثبات في التنمية، كما فعلت اليابان ثم كوريا وسنغافورة ثم الصين، استثمرت في البشر في المقام الأول من خلال التعليم والرعاية الصحية، كما أحدثت تطويراً نوعياً في البنية الأساسية، ونفّذت قواعد القانون والحوكمة، ودعمت تنافسية الأسواق وفاعلية الرقابة عليها وثبّتت من دعائم استقرار الاقتصاد الكلي.
نحن إذن أمام كم هائل من المؤشرات الرئيسية والفرعية التي تقيس الأداء الاقتصادي وتطورات التنمية لا يمكن اختزالها في مؤشر واحد بحال. ولتيسير الأمر لمتابعة إدارة شؤون الاقتصاد في سباق الأمم يمكن الاسترشاد بمثل قيادة سيارة في طريق متعرجة تتراوح بين الصعود والهبوط وسيارات الأمم الأخرى بين متقدمة ومواكبة ومتأخرة. وحتى تواصل السيارة هذا السباق فعليها أن تتمتع بمتانة وسلامة تحمي راكبيها، وأن يكون الركاب وقائد السيارة أصحاء متعلمين على دراية بما يفعلون. ولا تمكن قيادة السيارة دون متابعة لعدادات لوحة التحكم dashboard: فهذا عداد للنمو، وذاك عداد ثانٍ للتضخم، وثالث للبطالة، ورابع لمؤشرات الفقر ومدى العدالة في توزيع الدخل، وهكذا. ويجب أن تكون هذه العدادات دقيقة ومحدَّثة بالمستجدات، فقائد السيارة ومن معه لن تفيدهم البيانات المتقادمة في شيء.
هذا مثال للاستدلال به على أن متابعة الأداء الاقتصادي تكون من خلال متابعة مستمرة لعدة مؤشرات رئيسية، وليس مؤشراً واحداً، مثل متابعة عدادات لوحة التحكم بالسيارة وبطريقة تعين قائدها على التوقي من الحوادث والصدمات.
وكما في شؤون الحياة الأخرى فالحكم على الأداء الاقتصادي فرع عن تصوره. وهذا التصور بدوره يستند إلى حقائق وانطباعات. ولا يمكن وفقاً لأصول الاقتصاد السياسي واعتبارات التعامل مع عموم الناس تغييب الحقائق، وإلا تُرك الناس للظن بما هو أسوأ، كما لا يمكن تجاهل الانطباعات فهي تشكّل آراء الناس وأحكامهم أيضاً.
ولا نغفل أن ما يقدَّم على أنه حقائق، قد تشوبها أخطاء غير متعمدة في الرصد والمراجعة والعرض، أو عدم سلامة المنهج أو الطريقة المتبعة، وقد تشوبها أيضاً أخطاء متعمدة لا يمكن تبريرها كالتدليس والتلاعب بالبيانات وتعمد تأخير إصدارها للإفلات من الرقابة والمحاسبة.
أما الانطباعات عن الاقتصاد فهي خاضعة أيضاً لكمٍّ هائل من العوامل التي تؤثر عليها وتزيد الانطباعات السلبية سوءاً بغياب المعلومات وقصور تداولها. كما تتأثر بحملات الترويج، والتشويه أيضاً، فضلاً عن التأثيرات الثقافية والآيديولوجية.
وهناك من مراكز البحث ما يضع الموارد للتبين والتيقن من المعلومات والبيانات وإجراء اختبارات لفحصها، وهي عمليات مضنية ومكلفة ليست في متناول الجميع، إلا بما تصدره مؤسسات متخصصة في مجالات عملها.
وعند صياغة السياسات العامة وتوجيه الأجهزة المنوطة بتنفيذها تنبغي التفرقة بين الإجراءات التي تحسّن من حقيقة الأوضاع فعلاً وعملاً، وتلك التي تتعامل مع ما قد ينتشر من انطباعات مختلفة. فعلى سبيل المثال، فإن أرقام البطالة في العالم العربي مرتفعة للغاية، وتبلغ ضعف المتوسط العالمي وهو 5.7%، ولكن الانطباع قد يكون أسوأ أو أفضل مما ترصده هذه المتوسطات. فهناك من يذهب إلى أنه لا توجد بطالة تُذكر لأنه يبحث عن عاملين لمصنعه فلا يجد، وهناك من يرى أن البطالة منتشرة لأنه والمحيطون به في القرية يبحثون عن عمل فلا يجدون.
ولا سبيل للتعامل مع التناقض بين الحقائق والانطباعات إلا بالعلم وجودة الإفصاح والمصداقية. ففي حالة البطالة هناك طرق علمية متعارف عليها لقياس تطورها من خلال المسوح الميدانية الشاملة أو من خلال تحليل عينات ممثلة للمجتمع، وكذلك هناك أسس علمية متعارف عليها لاستقصاء الرأي والتعرف على اتجاهات الرأي العام. وقد يسّر تقدم تكنولوجيا المعلومات سبل جمع وتحليل البيانات ونشر تقاريرها بتكاليف أقل وزمن أسرع مما كان عليه الأمر منذ سنوات معدودة.
وفي هذا كله إشارات ترشد صانع القرار فيتخذ في حالة البطالة الإجراءات التي تخفض منها، مراعياً ما قد يكون في سوق العمل من تباين واختلال بين تخصصات ومهارات من يتقدمون لسوق العمل والطلب عليها.
وقد صدر مؤخراً، عن مشروع بحثي مشترك لجامعتي برنستون وميشيغان الأميركيتين، تقرير البارومتر العربي الذي أُعد على خمس موجات متتالية من المسوح، من خلال استقصاءات تمت بإجراء 70 ألف مقابلة مع عموم الناس في 15 دولة عربية على مدار الأعوام الثلاثة عشر الماضية. وجاءت الانطباعات لتشير إلى أداء اقتصادي متراجع مع سلبية التوقعات، وكان الأداء الحكومي منخفض التقييم، وأظهرت المسوح عجز الحكومات عن إتاحة فرص العمل والسيطرة على ارتفاع معدلات التضخم، وتحقيق العدالة ومكافحة الفساد، وإنْ تحسن تصنيف الأداء الأمني. ويعكس هذا التقرير المبنيّ على التعرف على الانطباعات ما تعكسه أيضاً مؤشرات أداء الاقتصاد الكلي للمنطقة العربية. ولعل العقد الثالث من هذا القرن يحمل من الخير للعرب ما لم يحمله العقد الثاني، الذي سيصنف كعقد مفقود للتنمية في البلدان العربية، إلا قليلاً.
* النائب الأول لرئيس البنك الدولي

* الآراء الواردة في هذا المقال لا تعكس بالضرورة رأي البنك الدولي
arabstoday

GMT 00:23 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

إسرائيل و«حزب الله».. سيناريو ما بعد التوغل

GMT 00:28 2024 الخميس ,13 حزيران / يونيو

مكاشفات غزة بين معسكرين

GMT 00:37 2024 الخميس ,16 أيار / مايو

التطبيع بعد القمة!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عن عموم الناس والتقارير الدولية عن عموم الناس والتقارير الدولية



GMT 10:34 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
 العرب اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 13:32 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
 العرب اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 10:29 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
 العرب اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 09:16 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أحمد العوضي يتحدث عن المنافسة في رمضان المقبل
 العرب اليوم - أحمد العوضي يتحدث عن المنافسة في رمضان المقبل

GMT 20:21 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

غارة إسرائيلية تقتل 7 فلسطينيين بمخيم النصيرات في وسط غزة

GMT 16:46 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

صورة إعلان «النصر» من «جبل الشيخ»

GMT 22:23 2024 الخميس ,19 كانون الأول / ديسمبر

إصابة روبن دياز لاعب مانشستر سيتي وغيابه لمدة شهر

GMT 06:15 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

جنبلاط وإزالة الحواجز إلى قصرَين

GMT 18:37 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

مصر تحصل على قرض بقيمة مليار يورو من الاتحاد الأوروبي

GMT 10:01 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

الزمالك يقترب من ضم التونسي علي يوسف لاعب هاكن السويدي

GMT 19:44 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

هزة أرضية بقوة 4 درجات تضرب منطقة جنوب غرب إيران

GMT 14:08 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

استشهاد رضيعة فى خيمتها بقطاع غزة بسبب البرد الشديد

GMT 14:09 2024 الخميس ,19 كانون الأول / ديسمبر

كوليبالي ينفي أنباء رحيله عن الهلال السعودي

GMT 03:37 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

أحمد الشرع تُؤكد أن سوريا لن تكون منصة قلق لأي دولة عربية
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab