التمويل والبحث عن نظام دولي جديد

التمويل والبحث عن نظام دولي جديد

التمويل والبحث عن نظام دولي جديد

 العرب اليوم -

التمويل والبحث عن نظام دولي جديد

بقلم -محمود محيي الدين

يبدو أنه في ظل حالة اللايقين المتزامنة مع الجائحة الصحية والتهديدات بالحرب واحتدام أزمة المناخ، تتجه الرؤى إلى احتواء هذه الكوارث وتحويلها إلى أزمات يمكن إدارتها. فهناك أمل تصحبه جهود صحية من خلال نشر اللقاحات لكي تنخفض حدة الجائحة المنتشرة لتصل لمرحلة الوباء محدود الانتشار، ثم لحالة مرض مُعدٍ يمكن السيطرة عليه. وهناك آمال، تتضاءل فرصها، في أن يخفّ قرع طبول التهديد بالحرب، التي تتعالى عبر قنوات الأثير في أثناء كتابة هذه الكلمات، وأن تبقى التطورات في حدود التوترات الجيوسياسية دون أن تتفاقم شراً، ولكن هيهات. كما أن هناك أهدافاً طموحة لحماية العالم من تغيرات المناخ، وتحقيق أهداف التنمية المستدامة والقضاء على الفقر المدقع، عوّقت مسارات التقدم فيها مربكات متوالية ليس أقلها شراً الجائحة وأشباح الحرب.
وبينما ينشغل العالم في التصدي لتبعات الجائحة الصحية، ومحاولة التعافي من آثارها الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية، لا يمكن تجاهل تأثيراتها المؤقتة منها والمستمرة على أوضاع الديون، المحلية منها والدولية. فقد أتت الجائحة على عالم يعاني أصلاً من تزايد الديون شجّع على تراكمها انخفاض شديد في أسعار الفائدة العالمية في أعقاب الأزمة المالية العالمية في عام 2008 فتبارى كل من لديه، أو ظن أن لديه، قدرة على الاقتراض فتزايدت الديون المستحقة على الحكومات والشركات والأفراد فيما يعرف بالموجة الرابعة للديون. وللذكرى فإن الموجات الثلاث السابقة لتراكم الديون لم تنتهِ أي منها إلا بأزمة، فكانت الأولى في أميركا اللاتينية في الثمانينات والثانية في جنوب شرقي آسيا في التسعينات والثالثة عالمية نبعت من أزمة الرهون العقارية. على النحو الذي ناقشتُه في هذه الصحيفة الغراء، ونشرتُه في كتاب صدر حديثاً تحت عنوان «في التقدم: مربكات ومسارات».
وقد صدر منذ أيام تقرير من مجموعة البنك الدولي عن التنمية في العالم، مركّزاً في تحليله على أربع رسائل عن المخاطر المالية لعالم ما بعد الجائحة:
أولاً، أن زيادة القروض المتعثرة للأفراد والشركات تستوجب زيادة الشفافية والإفصاح والعمل على تخفيض نسبة هذه القروض المتعثرة في مَحافظ البنوك للإبقاء على سلامتها وقدرتها على الاستمرار في مهامها في منح الائتمان.
ثانياً، أن إرجاء وتسويف علاج القروض السيئة والمتعثرة له عواقب اقتصادية ومالية واجتماعية ويعقّد من إمكانية الحصول على التمويل للمشروعات ويهدر جهود الشمول المالي ويطيل الفترة المطلوبة للتعافي الاقتصادي.
ثالثاً، أن القيود المانعة من الحصول على الائتمان يمكن التغلب عليها من خلال الابتكار والتطور في التقنية المالية والحلول الرقمية التي يمكن الاستعانة بها في إدارة مخاطر الائتمان بكفاءة. وفي إطار سياسة متكاملة للنمو والتنمية من الممكن أن تسهم إجراءات تيسير الائتمان وإدارة مخاطره في مساندة استهلاك الأفراد والقطاع العائلي، وتحفيز جهود قطاع الأعمال في الاستثمار والإنتاج والتشغيل والتصدير.
رابعاً، أن المستويات غير المسبوقة ارتفاعاً للقروض العامة المحلية والخارجية، تستلزم إدارة استباقية لإتاحة الموارد المالية العامة المطلوبة للتعافي. ويحذر تقرير البنك الدولي في هذه الرسالة الأخيرة من عواقب التأخير في إدارة الديون العامة وإبقائها في النطاق الآمن لما في ذلك من آثار ضارة على تراجع الأداء الاقتصادي والركود وارتفاع معدلات التضخم والاضطرار إلى تخفيض الإنفاق العام على التعليم والصحة وشبكة الضمان الاجتماعي.
انتهت الرسائل الأربع لتقرير البنك الدولي الذي صدر تحت عنوان «التمويل من أجل تعافٍ مُنصف». ويجدر بالذكر أن المخاطر المالية شديدة الارتباط رغم تنوعها، ففي وقت الأزمة قد تتحول مديونية القطاع الخاص إلى عبء عام إذا كانت مستحقة لدائنين أجانب. كما تَحول أزمة المديونية العامة دون قدرة الدولة على القيام بالتزاماتها حيث تستغرق تكاليف الأزمة إمكاناتها الاقتصادية وتنهك تبعاتُها قدراتِها السياسية، وبالتالي فإن تجنب الأزمة وتقليل احتمال حدوثها أمر بدهيّ، ولكنه يتطلب تنسيقاً عالياً بين السياسات النقدية والمالية العامة، وتعاوناً دولياً بين جهات التمويل والإقراض.
يتطلب منع أزمات المديونية تعافياً للاقتصاد وعودة ناتجه لمستويات ما قبل الأزمة، وفي هذا تجد أن 40% من الاقتصادات عالية الدخل قد تجاوزت متوسطات دخولها في عام 2019، أي قبل الجائحة، وذلك بما تيسر لها من إنفاق عام رخيص للتصدي للجائحة، وسرعة في توفير اللقاح لأكثر من 70% من سكانها. أما الدول متوسطة الدخل فلم تفلح إلا 27% منذ الأزمة في الارتفاع عن متوسطات دخولها قبلها، أما الدول النامية الأقل دخلاً فلم ينجح منها إلا 20% فقط في تجاوز مستويات ناتج ما قبل الجائحة. وسيكون للأداء الاقتصادي المتراجع في الدول النامية عواقبه، ليس فقط في مدى تحقيق التقارب بينها وبين الدول المتقدمة والأعلى دخلاً، ولكن على مدى قدرتها أيضاً على الوفاء بالتزاماتها تجاه خدمة ديونها الدولية خصوصاً مع ارتفاع معدلات التضخم العالمية والارتفاعات الجارية والمتوقعة في أسعار الفائدة العالمية، وأثر ذلك كله على تكلفة الاقتراض الجديد وكذلك على التدفقات المالية إلى الدول النامية.
من السيئ حقاً أنه لا يوجد حتى الآن إطار دولي سريع وكفء وعادل يمكن الاعتماد عليه في إعادة هيكلة الديون السيادية. فما تم تقديمه بعد الأزمة من تيسيرات لا يمكن احتسابها نظاماً متكاملاً. فمبادرة مجموعة العشرين لعام 2020 لإيقاف دفع خدمة الديون التي استفادت منها الدول الأقل دخلاً، ورغم أهميتها في تيسير التعامل مع متطلبات الجائحة على هذه الدول، تم إيقاف العمل بها في نهاية 2021، بما يعني أن هذه الدول ستكون مطالَبة بدفع المستحقات السابقة والجارية لخدمة ديونها.
من الاختزال المخلّ تصور إمكانية تطوير نظام متكامل وفعال لمعالجة الديون وإعادة هيكلتها بمعزل عن نظام نقدي ومالي عالمي أكثر كفاءة وعدالة. فبعد كل أزمة دولية يتكرر الحديث عن أهمية إصلاح النظام المالي، وتنتهي الأزمة على ما تنتهي إليه دون تغيُّر يُذكَر في القواعد والترتيبات القائمة، ذلك لارتباطها بنظام اقتصادي وسياسي عالمي وبترتيبات جرى أكثرها في أعقاب الحرب العالمية الثانية ونهاية الحرب الباردة.
كما أن ما يُعرف بالإطار الشامل للتعامل مع الديون، والذي دشنته مجموعة العشرين بعد الجائحة للتعامل مع آثارها، لا يمكن وصفه بالشمول فعلاً، فهو لا يتضمن الديون المستحقة على الدول متوسطة الدخل، كما لا يُدخل القطاع الخاص الدائن في التسويات إلزاماً؛ مكتفياً بالدعوة للتعاون، وتتسم إجراءاته مع ذلك بالبطء حتى الآن مثلما حدث مع الدول الأفريقية الثلاث التي طلبت الدخول في إطارها، وهي تشاد وإثيوبيا وزامبيا.
لا أعتقد أن الظروف السياسية الدولية الراهنة تتيح مناخاً مناسباً لتحقيق وثبات في النظام المالي الدولي للتعامل مع الديون أو استحداث آليات أكثر فاعلية وإنصافاً. فهذا يتطلب تعاوناً دولياً وإرادة سياسية. فلم يكن الإخفاق في هذا المضمار لعجزٍ في الحلول الفنية والقانونية، حتى إذا ما أخذنا في الاعتبار أن المديونية الدولية أصبحت أكثر تعقيداً وتشابكاً عمّا كانت عليه في موجاتها الثلاث السابقة. فدور القطاع الخاص ومؤسساته أصبح أكثر أهمية من ذي قبل، خصوصاً مع زيادة نصيب مقرضي السندات الدولية، كما أن هناك نسبة متزايدة للمقرضين السياديين من غير الدول الأعضاء في نادي باريس، بما يعقّد إجراءات عمليات التفاوض لإعادة هيكلة الديون.
وفي عالم شديد التغير بما يشهده من تبدل سريع للأوزان الاقتصادية بين القوى التقليدية وقوى صاعدة، يجدر الاستعداد لمستجدات ستسفر في النهاية عن ملامح نظام جديد؛ عسى أن يكون وهو في طور تكوينه أكثر سلماً مما رأينا مع نظم سابقة من قبل. وفي التعامل مع هذه المستجدات مبادئ محددة نستعرضها في مقال قادم.

arabstoday

GMT 13:05 2024 السبت ,05 تشرين الأول / أكتوبر

حزب الله بخير

GMT 11:57 2024 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

مرحلة دفاع «الدويلة اللبنانيّة» عن «دولة حزب الله»

GMT 11:55 2024 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

هل هذا كل ما يملكه حزب الله ؟؟؟!

GMT 20:31 2024 الجمعة ,13 أيلول / سبتمبر

عشر سنوات على الكيان الحوثي - الإيراني في اليمن

GMT 20:13 2024 الخميس ,12 أيلول / سبتمبر

صدمات انتخابية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

التمويل والبحث عن نظام دولي جديد التمويل والبحث عن نظام دولي جديد



الملكة رانيا تجسد الأناقة الملكية المعاصرة في 2024

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 14:05 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
 العرب اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 20:21 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

غارة إسرائيلية تقتل 7 فلسطينيين بمخيم النصيرات في وسط غزة

GMT 16:46 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

صورة إعلان «النصر» من «جبل الشيخ»

GMT 22:23 2024 الخميس ,19 كانون الأول / ديسمبر

إصابة روبن دياز لاعب مانشستر سيتي وغيابه لمدة شهر

GMT 06:15 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

جنبلاط وإزالة الحواجز إلى قصرَين

GMT 18:37 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

مصر تحصل على قرض بقيمة مليار يورو من الاتحاد الأوروبي

GMT 10:01 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

الزمالك يقترب من ضم التونسي علي يوسف لاعب هاكن السويدي

GMT 19:44 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

هزة أرضية بقوة 4 درجات تضرب منطقة جنوب غرب إيران

GMT 14:08 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

استشهاد رضيعة فى خيمتها بقطاع غزة بسبب البرد الشديد

GMT 14:09 2024 الخميس ,19 كانون الأول / ديسمبر

كوليبالي ينفي أنباء رحيله عن الهلال السعودي

GMT 03:37 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

أحمد الشرع تُؤكد أن سوريا لن تكون منصة قلق لأي دولة عربية
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab