جانب كبير من الأخبار والتقارير التي نتابعها ونطالعها على مدار السنوات القليلة الماضية، وبشكل مكثف في العامين المنصرمين، عن الذكاء الاصطناعي تدور أو تتعلق أو تحذر من أثر الذكاء الاصطناعي السلبي على مستقبل الوظائف، أو شكل العلاقات الإنسانية، أو الخلط المذهل بين الحقيقة والخيال، أو التصويب المميت في الحروب والصراعات، وقائمة المخاطر الذكية والأهوال الحاذقة للذكاء الاصطناعي في حياتنا لا تتوقف.
والحقيقة هي أن الذكاء الاصطناعي، الذي ابتكره ويطوره ذكاء بشري، متعدد الأوجه. وتعدد الأوجه نعمة لا نقمة، لكن النقمة تنمو وتتمدد حين نغض الطرف عن كل الجوانب الإيجابية وسبل الاستفادة وطرق تعظيم الفوائد. في الوقت نفسه، يتمكن الأذكياء من البحث عن الفوائد والتركيز على كيفية الاستفادة منها، وذلك بدلاً من مناطحة طواحين الهواء ومحاولة وأد الذكاء الاصطناعي في مقتل ليبقوا في أمان.
فرق كبير بين أن تبقى في حالة من الأمان المصطنع الناجم عن التظاهر بعدم رؤية ما يحيط بك من مخاطر وأضرار، وبين أن تنعم بقدر معتبر من الأمان لأن «تؤمن» نفسك جيداً، وتقوم بتحديث هذا التأمين بشكل دائم ومستدام، وحبذا لو كان قادراً على استشراف مستقبل الأمان، أي مكوناته التي تتغير من زمن إلى آخر ومن ظروف إلى أخرى.
وحين أطلقت حكومة الإمارات والمنتدى الاقتصادي العالمي «دافوس» منصة «نحن الإمارات للذكاء الاستراتيجي 2031» قبل أيام، قدمت نموذجاً يحول توليفة فعلية لكل ما سبق. هو نموذج رقمي يعتمد على الذكاء الاصطناعي أداة تقنية، وعلى الأدمغة والخبرات المتخصصة كل في مجاله وسيلة بشرية، تعمل في تناغم من أجل دعم صناع السياسات والاستراتيجيات في الإمارات.
المنصة قاعدة معرفية استراتيجية تحتوي على المعارف والخبرات اللازمة للتخصصات ذات الأولوية في رؤية «نحن الإمارات 2031».
وحين تكون رؤى الدول لمستقبلها خليطاً من الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والاستراتيجية والأمنية والابتكارية، لا يطغى أحدها على آخر أو ينفيه أو يؤجله بدافع أو بحجة الأولويات الآنية أو الطارئة، فإن هذا يضمن نصف النجاح.
نصف النجاح الآخر يعظم احتمالاته الاستخدام الصحيح للأدوات المتاحة، والسعي للحصول على المزيد المناسب منها، ما يحقق تفرداً وتقدماً وتميزاً.
ما يحدث في العالم من حولنا من تقلبات رهيبة يؤكد أن «المضمون» وهم، وأن عوامل خارج إرادتنا قادرة على أن تعصف بما كنا نعتقد أنه أمر مفروغ منه، لأنه منطقي أو واقعي، لذلك فإن المستقبل لمن أيقن وأتقن منظومتي الجاهزية والاستباق.
هاتان المنظومتان أقرب ما تكونان إلى ضمان المستقبل. لماذا؟ لأنهما قائمتان على المرونة والبعد عن الأطر التقليدية الجامدة، بالإضافة إلى اعتمادهما على مبادئ علمية وتطبيقات عملية تعتنق روح الابتكار والعلم. بمعنى آخر، إنه الذكاء الاستراتيجي.
ثمة أيام ليست بعيدة كان فيها الذكاء الاستراتيجي حكراً على العمل الاستخباراتي بين الدول وبعضها وفي داخلها. اليوم، الدول الذكية هي من تهرع إلى الذكاء الاستراتيجي لصياغة وصناعة مستقبلها. إنها الدول والوزارات والمؤسسات والهيئات والإدارات والجمعيات، بل والبيوت أيضاً، التي تجمع وتعالج وتحلل المعلومات اللازمة لتشكيل سياسات وخطط المستقبل.
إنها الدول والهيئات والأفراد التي تعتنق مبدأ الاستباق. إنها من يبحث عن الفرص الكامنة في المشكلات والمصاعب، والقادرة على حساب المخاطر واستشرافها، والمعتمدة على المعلومات والحقائق لرسم الخطط والاستراتيجيات. والاستعانة بإمكانات الذكاء الاصطناعي في الاستشراف والتحليل والتخطيط قيمة مضافة في كل الأحوال.
رب الأسرة القادر على استشراف أزمة اقتصادية تلوح أماراتها في المستقبل بناءً على معطيات من الوضع الاقتصادي أو الأمني العالمي، فيعمد إلى ادخار أو استثمار مبتكر في قنوات مأمونة نسبياً وبناءً على معلومات ذكية، مع الأخذ في الاعتبار أولويات أسرته، هو شخص ينتهج مبدأ الذكاء الاستراتيجي.
والدولة التي تعتبر الذكاء الاستراتيجي أسلوب عمل لتحقيق الازدهار لشعبها، وضمان معدلات نمو اقتصادي مرتفعة، وبلورة التعاون الدولي الذي هو البوابة الحقيقية لتحقيق السلام العالمي، وصناعة منظومة مرنة تحقق الريادة والتفوق هي دولة ذكية استراتيجياً وفعلياً.