العام الجديد فريد بكل تأكيد. في بداية كل عام، تقول البشرية إن الأيام المقبلة ليست كالسابقة.
ويسود شعور بين قاعدة عريضة من سكان الأرض أن الاقتصاد يتعثر، وأن السياسة تتعرقل، وأن الحياة لم تعد رائعة أو جميلة كما كانت، رغم أن ما كان ظل يتعرض من هذه القاعدة نفسها للذم والشكوى والاعتراض.
ربما هي سنة البشرية. تعتقد أن ما مضى كان أفضل، وتتريب مما هو قادم، حتى لو كان القادم يحمل ملامح تقدم أو تطور. نبكي على الماضي، ثم ننتظر ما سيسفر عنه الحاضر، وهلم جرا.
وما جرى في العالم في عام 2023، وجانب كبير منه استمرار لأوضاع سادت لسنوات وربما عقود، يبدو بالعين المجردة وكأنه الأفظع والأبشع.
وهذا أمر طبيعي. فمن حرب أوكرانيا التي تخطو نحو عامها الثاني بثقة، إلى الصراع في ميانمار الذي تحول من انتفاضة إلى تمرد إلى انقلاب ثم صراع على مدار عقود، إلى الوضع الضبابي الملتبس في اليمن، إلى الحروب والصراعات والقلاقل التي عاودت تفجرها مثل السودان والعراق وإلى حد ما لبنان وليبيا، وأخيراً وليس آخراً حرب قطاع غزة .
والتي تهدد بالتوسع والتحول إلى حرب إقليمية بين لحظة وأخرى، يحق لملايين البشر أن يعتقدوا أن القادم ليس أفضل بالضرورة.
وبعيداً عن البحث عما إذا كان القادم أفضل أم أسوأ، فإن القادم حتماً أكثر وضوحاً. والوضوح يتيح لكل ذي عقل وصاحب إرادة ألا ينجرف وراء شعارات أو يسلم نفسه ومن حوله لغايات تحلق في الفضاء ولا ترتكز على أرضيات واقعية ثابتة.
نصرة المظلوم وغوث المستغيث ومساعدة الملهوف، والاهتمام بالقضايا القومية، والمشاركة في المسارات الإقليمية، والحضور في الساحات الدولية لا تتعارض والاهتمام بالشؤون الداخلية للدول ومصالح شعوبها وتأمين مستقبلها.
انهيار دولة، أو ضلوعها في حرب ضروس، أو وقوعها في قبضة جماعات متحاربة لا تعني بالضرورة أن تنهار كل الدول حولها. ولو انهارت، لتفاقمت الخسارة وفقدت الدول والشعوب المتضررة القدرة على المساندة والمساعدة.
يقف عام 2023 شاهداً على اندلاع المزيد من الصراعات، وتأجج ما كان موجوداً منها أصلاً. كما شهد على قدر أقل من التعاون الدولي لدرء هذه الصراعات، أو على الأقل شهد العام المنصرم أثراً أضعف للتعاون الدولي لحل هذه الصراعات.
وسط عتمة 2023، يبزغ ضوء 2024 حيث تمضي قوى إقليمية عدة في طريق العقل والمنطق وسط أحداث تبدو إنها بلا عقل ومنزوعة المنطق. ويمكن القول إن دولاً على رأسها مصر والإمارات والسعودية وتركيا تخطو في العام الجديد برؤى واقعية وخطوات منطقية.
في السياسة ومصالح الشعوب، لا مجال كبير للإغراق في المجاملات أو الإفراط في الشعارات.
منطقة الشرق الأوسط شديدة الالتهاب شهدت – رغم الحروب والصراعات المتفجرة وتلك المصرة على الاستمرار في الاشتعال- تقارباً حميداً وتهدئة إيجابية في العلاقات بين مجموعة الدول التي بات يعتمد عليها إقليمياً لتكون قوى عقلانية حقيقية قادرة على إحداث الفرق، وليست قوى «حنجورية» (صوتية) تعتمد على الصراخ من أجل إلهاب المشاعر ودغدغة الأحاسيس.
الشعوب لا تأكل مشاعر، والدول لا تتقدم بالأحاسيس. أولئك الذين يطالبون دول المنطقة بالبقاء في خانة الحروب المستعرة دون حسابات، فقط لإثبات حسن النوايا القومية أو لإشهار عمق الروابط الدينية موجودون وفاعلون على الساحة. لكن تبقى العبرة بالخواتيم.
استعادة الحقوق تتطلب تكاتفاً مدروساً وتعاوناً مخططاً وحسابات دقيقة، وهي أمور لا تتوافر إلا للدول القوية سياسياً والمترابطة اجتماعياً والمتمكنة معرفياً، وليست المقتدرة اقتصادياً فقط.
أما الدول الهشة، فربما تملك الصوت العالي أو بلاغة الخطابة، لكنها لا تقف على أرض ثابتة داخلياً تمكنها من مواجهة زلازل السياسة الدولية وبراكين الحروب الإقليمية.
إقليمياً، لن يكون عام 2024 عاماً سهلاً أو حتى يسهل توقع أحداثه. لكن العقلانية والحكمة التي أبدتها حزمة من دول الإقليم على مدار عام صعب تدعو إلى قدر محسوب من التفاؤل، مع قدر وافر من الأمنيات بأن يكون العام الجديد أخف وطأة مما سبقه.