بقلم : مي عزام
(1)
كل مصرى يتابع باهتمام مفاوضات سد النهضة، ويتطلع للوصول إلى اتفاق يحفظ لمصر حقوقها الثابتة أزلًا فى الوجود والمصير بالنسبة لنهر النيل الذى يمثل شريان الحياة بالنسبة لمائة مليون مصرى الآن وملايين أكثر مستقبلاً. هناك الكثير من الجدل حول بداية الخطأ والخطر، فهناك من يعود بها لأيام السادات والابتعاد عن إفريقيا ثم تخاذل مبارك مع اتفاقية عنتيبى فى التسعينيات وما حدث فى اجتماع وزراء رى دول حوض النيل فى الإسكندرية، ثم شرم الشيخ 2009، وهناك من يتهم، بغير حق، ثورة يناير وتداعياتها بأنها التى شجعت إثيوبيا على البدء فى بناء السد فى إبريل من العام نفسه، وهو أمر غير منطقى، فدراسات الجدوى سبقت البدء فى البناء بسنوات وكذلك رحلة البحث عن تمويل، وهناك من يجد أن توقيع مصر على إعلان المبادئ مع إثيوبيا والسودان فى عام ٢٠١٥ كان السبب، حيث تعاملت مصر بحسن نية، فى حين تعاملت إثيوبيا بالعكس.
(2)
كل ما سبق أصبح فعلاً ماضياً لا يمكن استرجاعه، لكن يمكن التعلم منه حتى لا نقع فى نفس الأخطاء. أعتقد أن علينا التعامل مع ملف سد النهضة بنفس الجدية والروح التى تعاملت بها مصر مع حرب أكتوبر، بالدراسة والاستعداد والتأهيل والبحث عن أفضل العناصر التفاوضية ذات الفكر الإبداعى للخروج من هذا المأزق. المفاوضات ليست «مكلمة»، لكنها معارك حاسمة دون بارود، تستخدم فيها كل الأسلحة المتاحة، ويتم التخطيط لها تماما مثل الحروب العسكرية، ووضع خطط بديلة فى حال حدوث أى تغيرات غير متوقعة، ثم متابعة نتائجها وتقييمها. والمفاوض الجيد هو من يمتلك الكفاءة والمعرفة بالأهداف الاستراتيجية متعددة البدائل، ويتمتع بالمرونة والحزم، ويعرف كيف يغرى بالجزرة ومتى يهدد بالعصا، وعلى مصر أن تبحث بجدية عن مثل هذا المفاوض ولدينا هذه الكفاءات.
(3)
لا أعرف نتائج اجتماع واشنطن، لأننى أرسلت المقال يوم الثلاثاء والاجتماع يوم الأربعاء، الاجتماع جاء بناء على دعوة الإدارة الأمريكية لوزراء خارجية مصر والسودان وإثيوبيا، بحضور البنك الدولى، والأخير معروف أنه منفذ لسياسة أمريكا الخارجية، وله توجهات حول تسليع المياه وبيعها كأى سلعة أخرى، وأعتقد أن الدعوة جاءت ردا على مبادرة الرئيس الروسى بوتين وعرضه الوساطة بين مصر وإثيوبيا أثناء القمة الروسية- الإفريقية التى حضرها الرئيس السيسى مؤخرا. انفتاح مصر على الوساطة الروسية مثلما فعلت مع الوساطة الأمريكية مفيد، فكل طرف له أدوات تأثير مختلفة.
على أى الأحوال المفاوضات ستستمر لفترة طويلة ولن تكون سهلة، ونتائجها لن تكون حاسمة على المدى القصير، وعلينا أن نتوقع ذلك ونلتزم بسياسة النفس الطويل. مصر أخطأت حين تخلت عن مكانها ومكانتها فى إفريقيا، ولن تسترد تلك المكانة بسرعة، ويجب أن يظل تواصلنا واهتمامنا بإفريقيا قويا لا يفتر حتى مع عدم وجود نتائج إيجابية سريعة، إذا تركنا مكاننا فارغا سيملؤه غيرنا من صائدى الفرص السانحة فى إفريقيا.
(4)
رفع شعار الحقوق التاريخية لا يكفى فى زمن المصالح، ولنا فى القضية الفلسطينية مثلا حيا، نجاح مفاوضات سد النهضة يجب أن يمثل لنا معركة وجود وكرامة، دون مبالغات ممجوجة وانزلاق نحو مقترحات تضر ولا تفيد مثل الحديث عن تدخل عسكرى سافر، ضبط النفس وتحديد الأهداف واستخدام كل الوسائل المتاحة والثبات على موقفنا تحت أى ضغوط يضمن لنا النجاح فى مسعانا.
لو ارتضينا بفرضية أن مفاوضات سد النهضة معركة وجود، فعلينا أن ندرك أن المعارك تحتاج لتهيئة الرأى العام وخلق حالة اصطفاف مجتمعى، على الحكومة أن تبدأ فى طرح الموضوع للنقاش العام لاستعراض كل جوانبه بشفافية وصدق حتى يدرك المصريون ما يحمله لهم المستقبل من تحديات وكيفية مواجهتها والمطلوب منهم.