فى ٢٦ يوليو ١٩٥٦ أمّم الرئيس المصرى الأسبق جمال عبدالناصر قناة السويس لتصبح شركة مصرية خالصة، وهو القرار الذى جعل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل يشنون عدوانهم الثلاثى على مصر فى نهاية أكتوبر من نفس العام.
الدعاية البريطانية كانت تردد منذ هذا الوقت وحتى الأسبوع الماضى أن عبدالناصر أخطأ خطأ كارثيا حينما أمّم القناة، وأشعل فتيل الصراع الإقليمى والدولى، لأن القناة كانت ستعود لمصر فى عام ١٩٦٨ بصورة طبيعية، طبقا لاتفاقية القسطنطينية الموقعة عام ١٨٨٨ باعتبار أن عقد امتياز شركة قناة السويس هو ٩٩ عاما وسينتهى فى نوفمبر ١٩٦٨.
الأغرب أن هناك بعض المصريين صدّق هذه الدعاية البريطانية، وكان وما يزال يلوم جمال عبدالناصر باعتباره تسرع فى تأميم القناة، وأدخل مصر فى حروب وصراعات وصدامات كان يمكن تجنبها مع القوى الأوروبية الكبرى.
من حق الناس أن تختلف مع عبدالناصر وكانت له بالفعل أخطاء فادحة أهمها غياب التعددية والتسلط وتفضيل أهل الثقة على أهل الخبرة وهزيمة يونية 67، لكنه فى ملف تأميم القناة تأكد لنا أنه كان على حق.
المفاجأة أن الوثائق البريطانية التى تم الإفراج عنها أخيرا، ونشرها الزميل عامر سلطان على الموقع الإلكترونى لشبكة البى بى سى فى الأول من أبريل الجارى تقول بوضوح إن بريطانيا ومعها وفرنسا وقوى دولية أخرى خططت لعدم إعادة القناة للسيادة المصرية واستمرارالتحكم فى الممر الملاحى للقناة حتى بعد عودتها للسيادة المصرية المفترضة عام ١٩٦٨.
معظم المصريين كانوا يشككون فى النوايا البريطانية بأنها ستعيد القناة كاملة لمصر قبل أو بعد التأميم أو نهاية عقد الامتياز، لكن هذا التشكك كان مجرد استنتاجات وقناعات، لا تسندها أدلة وحجج مؤكدة حتى تم الإفراج عن الوثائق البريطانية الأخيرة.
السؤال الذى يتصدر تقرير «البى بى سى» يقول: هل كان عبدالناصر محقا فى الاستعجال بتأميم القناة، والنتيجة الختامية لهذه الوثائق هى أن البريطانيين خططوا حتى قبل قيام ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ لاستمرار السيطرة على القناة بعد تسليمها لمصر فى عام ١٩٦٨.
تقول الوثائق إن السير فرانسيس فيرنر وايلى ممثل بريطانيا فى شركة القناة نبّه حكومته فى فبراير 1952 أى قبل الثورة بخمسة أشهر إلى احتمال تسريع إجراءات تمصير أو تأميم القناة.
وبعدها مباشرة أرسل لورد موريس هانكى مدير الشئون التجارية فى شركة القناة تقريرا لوزارة الخارجية البريطانية يعدد فيه الأسباب التى تبرر عدم تسليم الشركة والقناة للمصريين حتى بعد انقضاء فترة الامتياز القانونية. وكان هانكى مقربا جدا من الزعيم البريطانى ونستون تشرشل، ومؤيدا لدور الوجود العسكرى البريطانى فى مصر. وانتهى تقريره إلى توصية بعدم تسليم قناة السويس لمصر حتى بعد عام ١٩٦٨.
شركة القناة كانت مصرية على الورق، لكنها تحت سيطرة الإنجليز والفرنسيين الفعلية خصوصا بعد أن اشترت إنجلترا حصة مصرالبالغة ٤٤٪ من أسهم القناة بأربعة ملايين جنيه إسترلينى، والتى اضطر لبيعها الخديوى اسماعيل لمواجهة الديون المتراكمة على البلاد من جراء مشروعاته لتحديث مصر وقتها، ونتيجة لكل هذه التقارير فقد خلص الخبراء الإنجليز إلى أن «الحجج المؤيدة لاتخاذ عمل ما الآن لضمان استمرار السيطرة على القناة حتى فى حال تسوية مصرية إنجليزية تعد قوية للغاية».
وبعدها بحث الخبراء الإنجليز وحلفاؤهم الأوربيون خمسة بدائل، الأول إضافة نص يتعلق بقناة السويس وشركتها فى أى تسوية بين مصر وبريطانيا، والثانى إنشاء تحالف عسكرى فى الشرق الأوسط لحماية القناة والشركة، والثالث تدخل حلف شمال الأطلنطى «الناتو» لتوفير الحماية، والرابع فصل منطقة القناة عن مصر، والخامس وضع القناة تحت سيطرة الأمم المتحدة.
تذكروا أن كل هذه الخطط نوقشت قبل قيام ثورة يوليو ١٩٥٢، وتأميم القناة عام ١٩٥٦. والدول الأوروبية اكتشفت أن كل البدائل الخمسة السابقة غير قابلة للتطبيق العملى بسبب رفض المصريين القاطع والمتوقع لها وصعوبة إقناع دول العالم بتأييدها. ولذلك تم طرح مشروع بديل يقضى بتشكيل تحالف شركات كونسرتيوم من القوى البحرية الأساسية المعنية بالقناة وهى إنجلترا وفرنسا وأمريكا وهولندا وإيطاليا والنرويج. حتى تتمكن من ملء الفراغ الناتج عن انسحاب القوات البريطانية المتوقع، بحيث يتمكن من مراقبة حرية الملاحة بعيدا عن التحكم المصرى.
فى الجزء الثانى غدا إن شاء الله نعرض لبقية الخطط البريطانية التفصيلية بشأن استمرار السيطرة على قناة السويس، وخطأ وكذب مقولة إنها كانت ستسلمها لمصر فى كل الأحوال عام 1968 بصورة طبيعية ومن دون صراع.