بقلم - عماد الدين حسين
لا ينكر عاقل أن هناك أسبابًا خارجية حقيقية للأزمة الاقتصادية الخانقة التى مرت وتمر بها مصر، خصوصًا كورونا وأوكرانيا ودورهما فى التضخم العالمى، ثم تراجع إيرادات الغاز ثم العدوان الإسرائيلى على غزة واشتعال البحر الأحمر وتأثر إيرادات قناة السويس.
الحمد لله أن صفقة رأس الحكمة مع الإمارات ثم الاتفاق مع صندوق النقد الدولى وتمويلات شركاء التنيمة المتوقعة وقرارات توحيد سعر الصرف ستمهد الطريق لحل الأزمة الخانقة. لكن للموضوعية من المهم أن نقر بوجود أخطاء داخلية، حتى نتجنبها.
من حسن الحظ أن الدكتور مصطفى مدبولى ليس عنيدًا، وحينما التقيناه فى إطار الحوار الوطنى، يوم الأحد قبل الماضى، قال الدكتور أحمد جلال، وزير المالية الأسبق، إن هناك أسبابًا داخلية أيضًا للأزمة، وسارع رئيس الوزراء للقول: أكيد.
الاعتراف بالأخطاء مهم جدًا وضرورى للعلاج.
حينما نتحدث عن أخطاء الماضى الداخلية فليس من أجل إحراج الحكومة، بل لهدف لعدم تكرارها وعلاج الأسباب التى قادت إليها.
فى ظنى أن هناك مجموعة من الأخطاء الداخلية التى وقعنا فيها فى السنوات الأخيرة، وقادت مع الأسباب الخارجية إلى ما وصلنا إليه.
وأول هذه الأسباب هو الاعتماد على الأموال الساخنة فى تدبير النقد الأجنبى.. قد يرد البعض ويقول ماذا كنا سنفعل كبديل عنها؟! والرد باختصار حتى لو كانت هذه الأموال مهمة، وتحل أزمة كبرى فإنها غير مضمونة، والدليل أنه حينما حدثت أزمة التضخم العالمية، ورفعت أمريكا وأوروبا سعر الفائدة من صفر إلى ٥٫٥٪ هربت كل الأموال الساخنة من كل الاقتصادات الناشئة، ومنها مصر، ووقعنا فى المصيدة الراهنة.
المفترض أنه حتى لو عادت الأموال الساخنة، فعلينا ألا نعتبرها المصدر الوحيد والأساسى لسد الفجوة الدولارية، فى أى وقت.
ثانى هذه الأسباب هو أننا قدسنا سعر الصرف الثابت، ظنًا أن ذلك من دواعى العزة الوطنية، وكأن سعر الجنيه هو رمز وطنى لا يهتز فى حين أن ذلك مخالف لكل القواعد والنظريات الاقتصادية وسعر أى عملة يتحدد بناء على عوامل اقتصادية، وليس التثبيت الجبرى الوهمى.
تخيلوا لو أننا حينما ثبتنا سعر الدولار عند ١٥ جنيهًا مع بداية برنامج الإصلاح الاقتصادى فى ٢ نوفمبر ٢٠١٦، قد تركناه يتحرك طبقًا لواقع السوق الفعلية، فالمؤكد أننا لم نكن نصل إطلاقًا للأسعار الخيالية التى تجاوزت السبعين جنيهًا، وأفقرت غالبية الطبقة الوسطى.
الدرس المهم للمستقبل أن نترك سعر الدولار يتحرك فى إطار مدروس وعملى، وليس تعويمًا كاملًا ما دام أن هناك فجوة دولارية مستمرة ما بين الصادرات والواردات وما بين الإنتاج والاستهلاك.
السبب الثالث هو ترك الديون الخارجية تصل إلى هذا المستوى «نحو ١٦٥ مليار دولار» إضافة إلى مبالغ أخرى على البنوك والهيئات الاقتصادية، ما يترك آثارًا سلبية كثيرة على غالبية الملفات خصوصًا أنه كلما ارتفع سعر الدولار زادت قيمة الديون.
وبالتالى فالدرس المهم هو وقف الاستدانة، وإذا كانت هناك ظروف طارئة فينبغى أن يكون ذلك فى أضيق الحدود، وأن نضمن السداد الفعلى. وإذا لم نضمن فالأفضل أن نتحمل المعيشة الأصعب بدلًا من إذلال الديون.
السبب الرابع هو ضرورة إعادة النظر فى أولويات الاستثمار العام. أعلم جيدًا أنه كانت هناك ظروف مختلفة حينما توسعنا فى الاستثمار العام، خصوصًا قبل ظهور كورونا وأوكرانيا وغزة. الآن الأمور تغيرت، وبالتالى لا ينبغى لنا أن نبدأ فى أى مشروع لا يوجد له حاجة ملحة جدًا، خصوصًا إذا كانت سيكلفنى عملة صعبة.
وحسنًا فعلت الحكومة أخيرًا حينما وضعت سقفًا للانفاق الاستثمارى العام، واوقفت تنفيذ بعض المشروعات العامة فى البنية التحتية ما دام أنها لم تصل إلى مستوى ٧٠٪ من التنفيذ. وفى هذا الصدد نحتاج إلى دراسات جدوى حقيقية لأى مشروع جديد حتى نضمن أننا نحتاجه فعلًا وبصورة عاجلة لا تحتمل التأجيل، وأن يكون له عائد مباشر وقريب، وألا يكلفنا عملة أجنبية إلا إذا كان سيدر عملة مماثلة.
السبب الخامس هو التضييق على القطاع الخاص، والحمد لله إن الحكومة بدأت تعالج هذه المشكلة أخيرًا.
والسبب السادس غياب الكوادر الإدارية والاقتصادية الكفؤة. والحل لذلك إشراك أكبر قدر من المجتمع المدنى فى مشروعات القوانين التى تعرض على البرلمان، وأظن أن الحوار الوطنى يمكنه أن يؤدى دورًا مهمًا، فى هذا الصدد إضافة إلى أى مشاركة مجتمعية.
مرة أخرى جيد أننا سنبدأ مرحلة جديدة بعد صفقة رأس الحكمة وأخواتها، لكن المهم أن نستفيد من كل الأخطاء السابقة حتى لا نكررها.