الصدرُ والقبرُ
أخر الأخبار

الصدرُ والقبرُ

الصدرُ والقبرُ

 العرب اليوم -

الصدرُ والقبرُ

عبد الرحمن شلقم
بقلم _ عبد الرحمن شلقم

ونحن أناسُ لا توسط عندنا
لنا الصدر دون العالمينَ أو القبرُ
أبو فراس الحمداني، الفارس المقاتل والشاعر الفحل، ولد وعاش في زمن عربي فيه الكثير من القلق، ولم يغب عنه حلم العظمة والكبرياء. في بلاط ابن عمه سيف الدولة الحمداني الذي حكم حلب، وأقام مجالاً سلطوياً له بحد السيف، وخاض حروباً مع الروم حقق فيها انتصارات كبيرة. كان نخبوياً بارزاً، فجمع في حاشيته الشعراء والنحويين، وأسس لمرحلة عربية نوعية. الشاعر العربي أبو الطيب المتنبي، وسيف الدولة الحمداني، كانا هناك يتدفقان شعراً، ويخوضان المعارك مع قائدهم الذي نافح عن مجاله العربي أرضاً وهوية وأدباً. وبسط يديه لمن حوله. أبو فراس الحمداني عندما قال: (ونحن أناس)، قصد العرب جميعاً، ولم يعنِ بذلك من هم حول سيف الدولة الحمداني، أو العشيرة الحمدانية فقط. لماذا نذهب إلى ذلك؟ لأن الفارس الشاعر وقبله ابن عمه وقائده سيف الدولة ومن معه، كانوا يواجهون الرومان كعدو له هويته التي تمثل الآخر في كل شيء. أبو فراس لم يقف عند الآخر الروماني فحسب، بل وضع كل من فوق الأرض في دائرة لا تطاول (النحن) الذي يمثله الشاعر والفارس العربي الحمداني. قال: لنا الصدر دون العالمين. كلمة (العالمين) في اللغة العربية حمَّلها اللغويون والمفسرون أثقالاً كلامية ودينية مختلفة. ولكن ماذا عن الصدر؟
لقد قصد الشاعر الفارس ابن عم الحاكم المقاتل قاهر الأعداء؛ قصد التفوق المطلق على غير العرب. لا يقبل الوسطية في أي شيء. يحتكرون وحدهم كل سلالم العظمة. لكن هذا المكان الذي يعتليه الكبار، وهو الصدر له ثمن غال يقابله، وهو القبر أي الموت. وضع الشاعر قوسين على أطراف هويته المتعالية: الصدر والقبر.
أبو فراس الحمداني الفارس المقاتل والشاعر المعتز بكل ما به، ألقمته الحياة أمكنة وحالات، رأى فيها عالمين آخرين، وعاش ما دون التوسط الذي رفضه يوماً. فارسنا وهو في الأسْر صار حكيماً آخر. تعلق بحبل الكبرياء والجلد، لكن الإنسان هو الإنسان، بغض النظر عن هويته وعرقه ومعتقده. فيه كل مكامن القوة والضعف، والخير والشر وغيرها. ظروف الحياة وفعلها هما ما يحدد مكان كل واحد. في قفص الأسر صار أبو فراس واحداً من العالمين. لا صدر ولا أمر. قال :
أراك عصي الدمع شيمتك الصبرُ
أما للهوى نهي عليك ولا أمرُ
قال الشاعر قصيدته هذه التي استهلها بهذا البيت الغزلي على عادة الشعراء العرب القدامى، وهو أسير عند الروم. لكنه هنا غير ذلك الشاعر الفحل المقاتل الذي ينتمي إلى قوم لا يقبلون إلا بالصدارة. توسل كثيراً إلى ابن عمه الحاكم أن يفتديه ويحرره من قبضة الروم.
لم يجد صاحب الصدر مكاناً وسطاً، لا لأنه يرفضه، ولكنه خارج دائرة الاختيار، فهو بلا صدر ولا وسط. في جوف أسره صار يناجي حمامة، ويتوسل إليها أن تأتيه ليقاسمها همومه. نعم هناك في الحياة مضارب أخرى، وأماكن غير الصدر وغير القبر. هناك القصر والشارع والسجن، والغنى والفقر، والقوة والضعف، والصدر والقبر، والعلم والجهل، وغيرها.
قد يكون التوسط حلماً بعيداً لا يطاله فارس أسير حتى في خيال شعره.
شعراء عرب خاضوا معارك الحياة. قاتلوا فانتصروا وهزموا. عاشوا بين الرفاهية والحاجة، وتنقلوا في رحاب الأرض والحياة. نضحت أشعار الكثيرين منهم فلسفة وحكمة خالدة. ارتفعت أصوات العلو والترفع والفخر، لكن مطرقة التدافع الإنساني العنيف كانت هي الأقوى دائماً.
الشاعر الفحل الفارس المقاتل رفيق أبي فراس الحمداني وغريمه في حاشية سيف الدولة الحمداني، أبو الطيب المتنبي كان ابن ذات المرحلة والبيئة التي تحركت بين الانتصارات والانكسارات، قال:
وإني لمن قومٍ كأن نفوسَهم
بها أَنَفٌ أن تسكنَ اللحمَ والعظما
كذا أنا يا دنيا فإن شئتِ فاذهبي
ويا نفس زيدي في كرائهها قُدْما
فلا عبرتْ بي ساعةٌ لا تُعِزُّني
ولا صَحِبَتْنِي مهجةٌ تقبلُ الظُّلْمَا
شاعرنا الكبير عاش مثل رفيقه أبي فراس، السجن بتهمة ادعاء النبوة، وطوى الفيافي، يدفعه حلم لم يفارقه، وهو أن يكون ممسكاً بمقود صدر سياسي ومالي، لكنه فرَّ من خيمة سيف الدولة غاضباً محبطاً إلى سرادق كافور الإخشيدي طامعاً مادحاً، وغادر مصر هارباً خائفاً.
أما أولهم القديم عمرو بن كلثوم التغلبي الذي قال:
إذا بلغ الفطامَ لنا رضيعُ
تخر له الجبابر ساجدينا
فقد حلّق إلى ما فوق الصدر. الجبابرة يخرون ساجدين لرضيع من قومه. لا قوة للرضيع الذي يحبو سوى أنه ينتمي إلى عشيرة ترهب الجبابرة. فما بالك بمن بلغ سن الرشد حاملاً سيفه ودرعه من تلك العشيرة؟ !
ذاك ما كان عن الصدور التي لا تقبل التوسط، والنفوس التي بها أنف أن تسكن اللحما والعظما، والرضيع الذي تخر له الجبابرة خاضعين ساجدين. فماذا عن القبر؟
أبو فراس الحمداني الذي أعلن أنه لا يقبل التوسط. إما أن يكون مع من هم في الصدر وإما في القبر. انتقل من الأسر إلى القبر. قتل وعمره سبع وثلاثون سنة، في معركة مع أبي المعالي، وهو ابن أخته في صراع على تولي حكم إمارة مدينة حمص. صار إلى القبر بلا روح أو صدر.
أما أبو الطيب المتنبي، الذي قال بأنه من قوم كأن نفوسهم بها أنف أن تسكن اللحما والعظما، فقد سكنت نفسه وأنفها في قبر دفعه إليه مقتولاً عصابة من الصعاليك.
ذلك الزمن بما فيه من صدور وقبور، اندفع بقوة من لحد قديم، وصرخ شاخصاً في زمننا القريب، في شعارات وأغانٍ وأشعار قالت:
فلسطين تحميك منا الصدور
فإما الحياة وإما الردى
ولبيك يا علم العروبة
كلنا نفدي الحمى
لبيك واجعل من جماجمنا
لعزك سلما
لبيك إن عطش اللواء
سكب الشباب له الدماء
غاب التوسط، وهو المكان الذي يصنعه العقل، بالعلم والإبداع والإنتاج والحرية. فتهشم الصدر وسادت الهزيمة والتخلف، واتسع القبر.

     
arabstoday

GMT 13:05 2024 السبت ,05 تشرين الأول / أكتوبر

حزب الله بخير

GMT 11:57 2024 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

مرحلة دفاع «الدويلة اللبنانيّة» عن «دولة حزب الله»

GMT 11:55 2024 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

هل هذا كل ما يملكه حزب الله ؟؟؟!

GMT 20:31 2024 الجمعة ,13 أيلول / سبتمبر

عشر سنوات على الكيان الحوثي - الإيراني في اليمن

GMT 20:13 2024 الخميس ,12 أيلول / سبتمبر

صدمات انتخابية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الصدرُ والقبرُ الصدرُ والقبرُ



إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الفخامة والحداثة بأسلوب فريد

عمّان ـ العرب اليوم

GMT 07:25 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية راقية تجمع بين الطبيعة الساحرة وتجارب الرفاهية
 العرب اليوم - وجهات سياحية راقية تجمع بين الطبيعة الساحرة وتجارب الرفاهية

GMT 07:39 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

كيف تختار الأثاث المناسب لتحسين استغلال المساحات
 العرب اليوم - كيف تختار الأثاث المناسب لتحسين استغلال المساحات

GMT 08:36 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

أطعمة ومشروبات تساعد في علاج الكبد الدهني وتعزّز صحته

GMT 08:12 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

التغذية السليمة مفتاح صحة العين والوقاية من مشاكل الرؤية

GMT 06:06 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

راجعين يا هوى

GMT 19:32 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

رانيا فريد شوقي تكشف سبب ابتعادها عن السينما

GMT 08:18 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الجيش الإسرائيلي يعلن اعتراض مسيّرة قبالة سواحل حيفا

GMT 02:48 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

المحكمة العليا الأميركية ترفض استئناف ميتا بقضية البيانات

GMT 07:58 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

تحوّل جذري في إطلالات نجوى كرم يُلهب السوشيال ميديا
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab