محمد أركون في التشكيل البشري للإسلام

محمد أركون في التشكيل البشري للإسلام

محمد أركون في التشكيل البشري للإسلام

 العرب اليوم -

محمد أركون في التشكيل البشري للإسلام

بقلم - عبد الرحمن شلقم

البروفسور محمد أركون، من المحطات الكبيرة في الفكر العربي والإسلامي المعاصر. أعطى حياته للعلم مبكراً. غاص في التاريخ والفقه الديني الإسلامي وتبحّر فيما كتبه السابقون. لأركون تكوين فريد في شخصيته منذ البداية، حيث وُلد في منطقة جبلية صعبة بالجزائر يسكنها الأمازيغ، ويتحدثون لغتهم في حياتهم اليومية، ولهم تقاليدهم وثقافة منطقتهم الخاصة. كان الاستعمار الفرنسي يسيطر على الجزائر منذ عقود، لكنه لم يتدخل في تفاصيل الحياة بالمناطق الأمازيغية الجبلية، التي حافظت على تقاليدها ولغتها ونسيجها الاجتماعي التقليدي. لم يكن هناك بوليس فرنسي أو ضرائب. كانت منطقة المزاب شبه معزولة بالكامل عن سائر البلاد. قال محمد أركون، كان في مدرستنا الابتدائية، خليط من اللغة الفرنسية والقبائلية والعربية، لكن اللغة القرآنية ذات مكانة فريدة والقدسية المتعلقة بتلاوتها الشعائرية. لا ننسى اسمه محمد بحمولته الدينية الكبيرة. محمد أركون تكوّن مبكراً في دنيا إسلامية موصوفة من حيث الزمان والمكان وظروف الاستعمار، والبيئة الاجتماعية والدينية والثقافية واللغوية. كانت الجزائر الفرنسية، تضم مسيحيين بكنائسهم ويهوداً بمعابدهم مع المسلمين في مساجدهم التي تملأ كل حي وشارع في كل البلاد، وتلقّى تعليمه بالجزائر على أيدي أساتذة فرنسيين. رحل إلى فرنسا طلباً للعلم بعد إنهاء دراسته الجامعية بالجزائر.
إذن، الرجل كان نتاج تكوين فريد في كل شيء. عرف المتفق عليه كما عرف المختلف عليه، بل عاشه مبكراً. هو أمازيغي وعربي مسلم في الوقت ذاته ثقافة وتكوينا ودينا، عرف الغرب الاستعماري، وعرف اليهود والمسيحيين مبكراً وعاش معهم في بلاده المستعمرة.
درس الفلسفة والتاريخ في جامعة السوربون، واطلع على فلسفة الغرب في عصر النهضة والتنوير وما قبلهما، ودرس التاريخ والفقه الإسلامي، وتابع التطورات السياسية والتحولات الفكرية التي عاشتها المنطقة العربية والمغاربية بعد أن نالت استقلالها. هذا محمد أركون الفيلسوف والمؤرخ للفكر الإسلامي، والمؤسس لعلم الإسلاميات التطبيقية. قال أركون في كتابه «التشكيل البشري للإسلام» وهو تفريغ لحوار طويل أجراه معه عدد من المفكرين والمثقفين الأوروبيين «بعد ما نالت بلدان شمال أفريقيا استقلالها، رحت أتساءل، ماذا سيحصل لنا نحن الجزائريين؟ وعندئذ أحسستُ فوراً بالمشكلة التي سيطرحها الإسلام وبالسياسات التي سوف تقاد بسببه أو بفضله». ويضيف أركون، أنه انشدَّ إلى خطابات الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة التي توافقت مع أفكاره، ورأى فيها الكثير من الأمل، في حين رأى في الخطاب السياسي المغربي اتجاهاً محافظاً. حلقة مرحلة الاستقلالات المغاربية وما رافقها في دول إسلامية أخرى، دفعته إلى نقده للعقل الإسلامي المنغلق على ذاته، وإن كان هذا النقد جريئاً، لكنه حذر في الوقت ذاته. أفكار محمد أركون كانت إجابات عميقة عن أسئلة يطرحها واقع له جذور عميقة امتدت في زمن موروث طويل سحيق في حياة الشعوب الإسلامية.
في الصفحة 183 في كتاب «التشكيل البشري للإسلام» وُجّه له السؤال التالي: أثناء محاورتنا عن سورة التوبة، قلت لنا بإن السياسة تتحكم في الدين، أو تستخدمه لصالحها، ولكن ألا يُعتبر التحدث عن العلاقات بين السياسة والدين في زمن تشكل القرآن نوعاً من الإسقاط أو المغالطة؟
أجاب الدكتور محمد أركون: للرد على هذا السؤال، ينبغي التذكير بأن حياة البشر تتحقق عادة داخل فضاء اجتماعي سياسي. حيث إن السياسة تحيلنا إلى مفهوم (polis). وهي كلمة إغريقية تعني المدينة السياسية.
وانطلاقاً من هذا المعنى، فهي تعني المجتمع السياسي بشكل عام، أو الدولة بالمعنى الأكثر اتساعاً. لقد كانت السياسة منذ أيام الفلسفة الإغريقية، مدعومة من قبل تصور معين عن ماهية الحياة السياسية. بهذا المعنى الواسع العام، فإنه توجد أيضاً وبالتأكيد سياسة في الخطاب النبوي عموماً، ليس فقط في القرآن، وإنما في الكتاب المقدس أيضاً بالنسبة لليهود والمسيحيين. أقصد التوراة والإنجيل، فموسى كان يتحدث داخل فضاء اجتماعي، فإنه توجد بوليس، ليس بمعنى المدينة الإغريقية، وإنما مجموعة من البشر يبحثون عن تنظيم حياتهم الاجتماعية بشكل ما.
أعتقد أن هذه الإجابة من محمد أركون، تشكل محوراً أساسياً في قراءته العميقة والموسعة في تشكيل الدين لحياة البشر في مجتمع واحد.
وقف عند التطور السياسي للإسلام، وقال أركون، فيما يخص حالة القرآن، لم تكن هناك دولة طيلة كل فترة ظهور الخطاب النبوي القرآني ونزوله المتتابع. الدولة السياسية المحسوسة ستجيئ لاحقاً في دمشق بعد موت النبي.
يرحل أركون في التطور التاريخي لمراحل الحياة السياسية العربية والإسلامية، في محطاتها الأموية والعباسية، وطرق الوصول إلى السلطة وتداولها، ودور العصبية القبلية والتحالفات والخلافات والتوازنات.
أهم ما يميز مسيرة أركون البحثية العلمية، منهجه المعرفي الأنثروبولوجي الموضوعي، وأنه مسلم غير مصطف إلى طائفة أو مذهب، فلا هو سني ولا شيعي ولا أمازيغي، بل هو عالم مسلم وفيلسوف موسوعي درس بعمق، التاريخ والفقه الإسلامي، والفلسفة اليونانية وكذلك الأوروبية. تعرّض لحملات تفسيق، بل تكفير من رهط يقبعون في حفر الماضي، وغاصوا في طين ما عجنه الزمن السحيق، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء قراءة، ما أبدعه المسلمون الفقهاء والفلاسفة. أركون الفيلسوف أضاف الكثير إلى الفكر الإسلامي ونافح عن العقيدة بالعلم والعقل، وأضاء لهذا الجيل سبل الولوج إلى دنيا يعيشها اليوم، يتسيد فيها الأقوياء بالعقل والعلم الذي يضيف كل يوم صناعات واختراعات.
كتاب «التشكيل البشري للإسلام»، اعتبره من أهم ما تركه لنا الدكتور أركون، فقد كان نتاج حوار طويل وصريح، مع نخبة من المثقفين غير المسلمين، وأجاب عن أسئلتهم بجرأة وعمق وتوسع علمي شامل. لقد أنجز البروفسور أركون 18 عملاً بحثياً علمياً حول الإسلام، وهي تشكل مكتبة أضافت الكثير للإسلام.
هناك اليوم في الأوساط النخبوية الإسلامية، من يرفع شعار العلمانية، يقابله تيار إسلاموي، يرفع شعار الإسلام هو الحل. الشعارات أناشيد رغبوية جامدة، لا تسقي العقل ولا العضل. الفكر الذي ينبت من دنيا الحياة التي نعيشها، مستخلصاً ما في الإسلام من قيم نورانية وتنويرية والتسلح بالعلم التطبيقي الحديث، هي المنقذ من التخلف والسقوط والهزائم.
ما أنجزه المفكر الفيلسوف محمد اركون، يقدم لنا شحنة أمل في زمن يصر فيه بعضهم على ترسيخ وتوسيع آيديولوجيا الظلام والتخلف والعنف باسم الدين الإسلامي.

arabstoday

GMT 20:40 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

عندما يعلو صوت الإبداع تخفت أصوات «الحناجرة»

GMT 06:23 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

المبحرون

GMT 06:20 2024 الأربعاء ,10 تموز / يوليو

قرارات أميركا العسكرية يأخذها مدنيون!

GMT 06:17 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

تسالي الكلام ومكسّرات الحكي

GMT 06:14 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

كيف ينجح مؤتمر القاهرة السوداني؟

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

محمد أركون في التشكيل البشري للإسلام محمد أركون في التشكيل البشري للإسلام



GMT 10:34 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
 العرب اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 13:32 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
 العرب اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 10:29 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
 العرب اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 20:44 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
 العرب اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 03:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 06:15 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

جنبلاط وإزالة الحواجز إلى قصرَين

GMT 04:01 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 20:58 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

الجيش الأميركي يقصف مواقع عسكرية في صنعاء

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

موسكو تسيطر على قرية بمنطقة أساسية في شرق أوكرانيا

GMT 14:19 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

إلغاء إطلاق أقمار "MicroGEO" الصناعية فى اللحظة الأخيرة

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

وفاة جورج إيستام الفائز بكأس العالم مع إنجلترا

GMT 17:29 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

سائق يدهس شرطيا في لبنان

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

إصابات بالاختناق خلال اقتحام الاحتلال قصرة جنوبي نابلس

GMT 07:06 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مقتل 6 في غارة إسرائيلية على مدرسة تؤوي نازحين بغزة
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab