الكتابة بحبر الظل

الكتابة بحبر الظل

الكتابة بحبر الظل

 العرب اليوم -

الكتابة بحبر الظل

بقلم : عبد الرحمن شلقم

يضيق صدري ولا ينطلق لساني... آهة تجوس في صدر كل زمان. ليس كل ما يُعرفُ يُقال، زفرة أخرى زفّتها تباريح سكنت في حيرة مأزوم بوخز إبر تشاركت في صقل رؤوسها نداءات الضمير وألسنة نبت فوقها شَعرُ له شوك يلسع الكلام. الصدر صار صندوقاً حجرياً ضيقاً بلا زفير يدفع الكلام.
كل ذلك كان في زمن رحل بمن فيه، لكن جِمالَ الأيام لم تحط رحالها وما زالت القوافل تعبر فيافي الأزمان على ظهور تتبدل وهي اليوم بلا أقدام من لحم وعظم. سيارات وقطارات وطائرات وسفن، لكن الناس هم الناس في داخلهم وإن تبدلت وسائل رحلاتهم وألبستهم وموائد طعامهم ودرجات علمهم. يزول العود ويبقى ظلَّهُ. يرحل البشر من الحياة الدنيا إلى مقابر تجمع أجسادهم، لكن ظلالهم تتحول إلى وجود حي يسكن رؤوس القادمين دون توقف من أرحام الحياة. الظِل يبقى بعد أن يغيب العود، أي أجساد الراحلين. لكل زمان حواسه يهبها له البشر بالعلم والدم وحروف تخطها الأقلام بحبر العقل المتجدد والمجدد. الراحلون من البشر لا يأخذون معهم إلى مثواهم الأخير ما كتبوه في صحف الأيام أو ما أبقوه من كلام تغلغل في الذاكرة الإنسانية التي تتحرك فوق الوجود.
نحن اليوم نعيش في خضم تملأه صخب الآلة التي نتبادل التحكم معها في الحياة بكل مفاصلها الكبيرة والصغيرة ولا نوقن بالقطع من يتحكم في الآخر. الآلة وُلدت من رحم العقل البشري وهو الأسطورة الأعظم من كل آلة تحركت أو سكنت. أما الإبداع الفكري بكل تجلياته الفلسفية والأدبية والفنية فهو تعبير بلغة ما ضاق الصدر به وتدفق شعراً وروايات وموسيقى ورسماً وفكراً، وقال فيه العقل ما عرفه بلغة مشفرة أو مفتوحة، فالعباقرة امتلكوا المعرفة واخترعوا لها لغة القول التي تعانق العقول. الإبداع آهة لها أصابع وأقلام وحروف وألوان. الرحلة التي ترافق فيها العقل واللغة في التاريخ البشري لم تكن هينة، بل كانت شاقة وكلفت بعض الكبار حياتهم. آهات صاعقة جرى التعبير عنها بالقول الصريح كلفت سقراط حياته واتُهم بالهرطقة وإفساد عقول الشباب، وانتهت حياته بتجرع السم، ماذا لو أغلق صدره وجعله ضيقاً ومضغ شَعْرَ لسانه متقبلاً ما به من إبر حادة ولبس ثوب الصمت أو المراوغة كي لا يجني على كل جسده وما بداخله من حياة تحركها الروح، أو أنه كتم ما يعرف وأسكنه فسيح عقله ورحابة عبقريته في صمت؟
الفيلسوف المفكر القسيس الإيطالي جوردانو برونو، اعتنق نظرية كوبر نيكوس عن دوران الأرض، وعبر عن أفكار جديدة تتعلق بالدين المسيحي والأفكار التي تتبناها الكنيسة الكاثوليكية وعوقب بالقتل حرقاً في ميدان كامبودي فيوري بوسط مدينة روما. ما ضره لو صمت وردم ما جال في رأسه من أفكار في حفرة الصمت العميقة، أو دسها في صندوق عقله؟ الكثير من العلماء والفلاسفة، تمردت ألسنتهم وضربت ما تصلب في جحور الرؤوس، وقرعت عقولهم جدران الموروث المقدس فكانت ضربة النهاية لألسنتهم وتحولت ظلال أفكارهم إلى أنوار قادت العيون إلى سبيل التغيير والنهوض. القائمة تطول مثلما هي رحلة البشر في الوجود. محاكم التفتيش قضت على من حملوا أفكاراً أو عقائد مخالفة للكنيسة أو الحاكم. لكن الفكر كائن لا يُرى ولا جسم له، ويستحيل القبض عليه. نحن اليوم في زمن يصنعه جميع من هم فوق هذه الأرض. طالب يافع يكتب على جهاز بحجم كف اليد، يعبّر عن فكرة يظن البعض أنها ترهات ساذجة، لكنها تتحول إلى محور نقاش ينشدّ إليه آلاف من قارات مختلفة. غابت الأقلام والأوراق، التي كانت المعجزة الكبرى، بعدما قفز البشر من الكتابة على عظام الحيوانات وسعف النخيل وأوراق البردي. كان المفكرون والدارسون يتحدثون عن الرأي العام، وهو التوجه الذي يسود بين عامة الناس. ثم بدأ الحديث عن قادة الرأي، ويُقصَد به الإعلاميون. اليوم يمكننا القول إن «المزاج العام» هو التيار الأفقي الذي يشترك في صناعته الناس كبارهم وصغارهم، من يحملون أرقى المؤهلات العلمية، ومن الذين لا يجيدون سوى الكتابة فوق جهاز صغير، ومنهم من تعجّ كتاباتهم بالأخطاء الإملائية، لكنهم يدخلون إلى حياة الناس اليومية في كل مكان. لم تعد هناك أبراج عاجية أو إسمنتية أو طينية، صارت الحياة دون مرتفعات تعبيرية. تهاوت كل الطواطم بضربات الحروف العابرة لكل جدران الموروث الجامد. صار كل من يعرف الكتابة على الجهاز الصغير فاعلاً عضوياً، يكتب بحبر غير سائل على لوح ليس من الخشب أو الورق. المثقف العضوي الذي صنع منه المفكر أنطونيو غرامشي يوماً، قوة للتغيير من خلال قرع أجراس الوعي في دائرة نشاطه المهني أو الوظيفي، هبّت عليه رياح زمن جديد، هو زمن «المزاج العام الأفقي». زالت الأعضاء عن الثقافة بمفهومها الذي ساد. القوقل أستاذ الكرسي الجامع للعلم، والمطيع للجميع، أسس لمدرج الجامعة الإنسانية الأفقية الموعولمة المفتوحة. والقنوات الفضائية واليوتيوب ووسائل الاتصال العبقرية الحديثة، كسرت الأبراج العالية التي كانت تُرفع لها الرؤوس؛ تطلعاً لاقتناص معلومة أو فكرة.
التقنية الحديثة تبدع زمناً جديداً بكل ما فيه، والمعرفة تجوب الأماكن والآفاق، وتزيل المسافة بين ما في الرؤوس، وما تخطه الأصابع على صفحات الألواح البيضاء المضيئة، لتطير في ثوانٍ إلى أبعد البعيد.
هذا القرن هو زمن الكون الآخر، والإنسان الآخر والحبر الذي يكتب ما سيبدعه إنسان جديد، لا تقيد عقله أغلال الجهل، وحبال الحاجة.

arabstoday

GMT 06:23 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

المبحرون

GMT 06:20 2024 الأربعاء ,10 تموز / يوليو

قرارات أميركا العسكرية يأخذها مدنيون!

GMT 06:17 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

تسالي الكلام ومكسّرات الحكي

GMT 06:14 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

كيف ينجح مؤتمر القاهرة السوداني؟

GMT 06:11 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

اكتشافات أثرية مهمة بموقع ضرية في السعودية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الكتابة بحبر الظل الكتابة بحبر الظل



الأسود يُهيمن على إطلالات ياسمين صبري في 2024

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 03:38 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

إسرائيل تتهم الجيش اللبناني بالتعاون مع حزب الله
 العرب اليوم - إسرائيل تتهم الجيش اللبناني بالتعاون مع حزب الله

GMT 04:11 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

أدوية حرقة المعدة تزيد من خطر الإصابة بالخرف
 العرب اليوم - أدوية حرقة المعدة تزيد من خطر الإصابة بالخرف

GMT 14:00 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

نيقولا معوّض في تجربة سينمائية جديدة بالروسي
 العرب اليوم - نيقولا معوّض في تجربة سينمائية جديدة  بالروسي

GMT 10:38 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

المشهد في المشرق العربي

GMT 07:59 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب

GMT 15:07 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

كاف يعلن موعد قرعة بطولة أمم أفريقيا للمحليين

GMT 19:03 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

فيروس جديد ينتشر في الصين وتحذيرات من حدوث جائحة أخرى

GMT 13:20 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

برشلونة يستهدف ضم سون نجم توتنهام بالمجان

GMT 02:56 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

مقتل وإصابة 40 شخصا في غارات على جنوب العاصمة السودانية

GMT 07:52 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام

GMT 08:18 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

مي عمر تكشف عن مصير فيلمها مع عمرو سعد

GMT 10:42 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

عواقب النكران واللهو السياسي... مرة أخرى

GMT 09:44 2025 الأحد ,05 كانون الثاني / يناير

الصحة العالمية تؤكد أن 7 ٪ من سكان غزة شهداء ومصابين

GMT 08:54 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

محمد هنيدي يكشف مصير مشاركته في رمضان

GMT 23:13 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

زلزال بقوة 5.5 درجة على مقياس ريختر يضرب مدينة "ريز" في إيران

GMT 08:44 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

بشرى تكشف أولى مفاجآتها في العام الجديد

GMT 09:35 2025 الأحد ,05 كانون الثاني / يناير

شهداء وجرحى في قصف متواصل على قطاع غزة
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab