بقلم - عبد الرحمن شلقم
صحيفة «شارلي إيبدو» الفرنسية، تخصصت في نشر صور وطرح موضوعات سياسية وثقافية مثيرة للجدل داخلية وخارجية، لكنها في سنواتها الأخيرة، اتخذت من النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، محطة ساخرة تقف عندها من وقت لآخر. نعم حرية التعبير في فرنسا وفي غيرها من الدول الأوروبية محصنة بالدساتير والقوانين. لكنْ هناك ضوابط وقيود في هذه الدول على مواضيع وقضايا عدة لا يسمح بالاقتراب منها. قضية معاداة السامية والتشكيك في المحرقة النازية لليهود يعاقب عليها القانون، وقد تعرض المفكر الفرنسي روجيه غارودي لعقوبات بسبب تشكيكه في عدد ضحاياها. في ألمانيا لا يزال الجدل مستمراً حول نشر كتاب أدولف هتلر «كفاحي» وغيره من الأعمال النازية.
وقد تساءل الكثير من الفرنسيين عن الإضافة الفكرية التي تقدمها الصور الساخرة التي تمس مشاعر المسلمين في داخل فرنسا وخارجها. في الأيام الماضية أثار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ما سماه المجتمع الموازي في فرنسا، وتحدث مطولاً عن مسلمي فرنسا البالغ عددهم ستة ملايين مواطن واتساع ظاهرة المجتمع الموازي في فرنسا الذي يشكله المسلمون أو المتأسلمون كما وصفهم داخل المجتمع الفرنسي. فرنسا تفتخر من دون توقف بتكريسها للدولة العلمانية التي تفصل بين الدين والدولة، وقد شرّعت ذلك بقوانين صدرت سنة 1905. لكن الفصل بين الدين والمجتمع أمر آخر. الوجود الإسلامي في فرنسا له خصوصية تلازم أبناءها من الوافدين في حقبة الاستعمار الفرنسي لبلدان شمال أفريقيا. توجه آلاف من المغاربة والجزائريين والتونسيين إلى فرنسا بحثاً عن العمل، وجند الآلاف منهم في الجيش الفرنسي وخاضوا معارك دامية ضد قوات المحور النازية والفاشية. المجتمع الموازي كما سماه الرئيس ماكرون في كلمته الطويلة بدأ مبكراً وفي وسط مرحلة الاستعمار الفرنسي. كان المهاجرون المسلمون يحملون بطاقة هوية خاصة كُتب فيها (فرنسي مسلم)، بمعنى فرنسي مختلف عن الآخرين. في مرحلة مقاومة البلدان المغاربية للاستعمار الفرنسي، رفع المقاتلون شعار الجهاد، وكان لهذا الشعار صداه وتأثيره داخل الجاليات الإسلامية في داخل فرنسا التي حرصت على تميزها عن الآخر المحتل الذي ارتكب الفظائع الدموية. كلمة «فرنسي مسلم» التي كتبت في هويات المهاجرين المسلمين، حفرت مشاعر غائرة في العقل والضمير، وصار التمسك بالهوية الإسلامية سلاحاً للمقاومة. فرنسا الموازية التي تحدث عنها الرئيس ماكرون، ولدت مبكراً منذ وصول الدفعات الأولى من المهاجرين المغاربة إلى فرنسا التي قررت الاختلاف بالوثائق الرسمية التي حملها المهاجرون معهم أينما حلوا. وكما يُقال فإن الصدمة الحضارية تطال كل من يدخل مجتمعاً آخر تختلف منظومة قيمه عن تلك التي نشأ عليها وغُرست في وجدانه ورسمت سلوكه مبكراً.
أين خطوط الاختلاف اليوم بين المواطن الفرنسي الأصيل والمواطن الفرنسي المسلم. السلوك الاجتماعي المختلف بين الاثنين هو الذي يبني جدار العزل بين أبناء الوطن الواحد. أثيرت مبكراً قضية الزي في الأماكن العامة والعمل وخاصة بين النساء المسلمات. في نظر الدولة الفرنسية العلمانية، فإن التمايز بالزي يخالف قواعد الدولة العلمانية المشرعة في قوانينها. تحدث الرئيس ماكرون حول ظاهرة عزل الذكور عن الإناث المسلمات في المسابح العامة عنوة، مشدداً على رفضه لذلك. أسهب في الحديث عن التطرف الديني بين الفرنسيين المسلمين ودور المساجد في ذلك، وأعلن عن خطته لتكوين أو تأهيل أئمة للمساجد في داخل فرنسا ووضع ضوابط للقادمين منهم من خارج البلاد، وكذلك عن التبرعات والدعم الذي يأتي إلى المساجد من الخارج احترازاً من قيام بعض الأئمة ببث الخطاب الذي يدفع ببعض الشباب إلى التطرف والعنف. تلك مقاربة كثيراً ما تجافي الواقع، فالكثير من الشباب المسلمين انساقوا إلى التطرف من داخل السجون التي تصطادهم بداخلها عناصر متطرفة. تجمع المسلمين في أحياء فقيرة تنتشر فيها البطالة، تنمي حالة الشعور بالدونية والتهميش عند الشباب ما يجعلهم فريسة سهلة لأصحاب الفكر المتطرف.
الرئيس الفرنسي مشدود إلى أفق الانتخابات الرئاسية القادمة بعد سنتين والمصارع الكبير له فيها هو اليمين المتطرف الذي سيوظف أحداث العنف والأعمال الإرهابية التي قام بها بعض الشباب المسلمين، وخاصة الهجوم على صحيفة «شارلي إيبدو»، هو أحد العوامل الرئيسية التي جعلته يثير موضوع فرنسا الموازية في مكان وزمان بهما الكثير من الإشارات والدلالات.
تحدث الرئيس عن الإسلام بصفة عامة وليس في فرنسا فحسب، ووصفه بأنه مأزوم في كل مكان. صحيح هناك الكثير من البلدان الإسلامية التي تشهد أزمات لا تغيب عنها الأعمال الإرهابية تحت شعارات دينية، لكن وصف الإسلام بأنه مأزوم في كل مكان في العالم لا يخلو من التلوين السياسي أكثر مما يؤسس على تحليل وتقييم فكري وعلمي دقيق. الرئيس في خطابه الطويل كان يعالج سياسياً ظاهرة هي في المقام الأول فرنسية وإن كان لها تداخل مع عوامل خارجية.
الموضوع لا يمكن معالجته فقط عبر وضع ضوابط ومعايير لأئمة المساجد، بل هو محتاج إلى معالجات ثقافية وفكرية وانثروبولوجية. هناك مفكرون في البلدان المغاربية لهم مؤهلات وقدرات علمية على الخوض في هذا الأمر عبر حوار ونقاش مع الآباء والأبناء تجسّر المسافة بين البيت الإسلامي والمجتمع الفرنسي، وتطرح رؤية واقعية اجتماعية لتجاوز حلقة ما سماه الرئيس فرنسا الموازية.
هناك ملاحظة تستحق الوقوف عندها، وهي أن الكثيرين من الشباب المسلمين الفرنسيين الذين انساقوا في طريق العنف والإرهاب، هم ليسوا عرباً بل قدموا من دول أفريقية وآسيوية ومنهم من لم يقرأ القرآن ويعانون من البطالة والعوز وجدوا في الشعارات الإسلامية مهرباً تعويضياً مخادعاً، استغله غيرهم لتجنيدهم في أعمال ضد الأبرياء.
معالجة حالة الشرخ الاجتماعي في فرنسا الذي ينسب إلى المسلمين تستحق أن تعبئ لها الدولة الفرنسية جهداً في خطة تتضمن البرامج التعليمية والاقتصادية بل والسياسية من دون تجاهل قوة تأثير الدين على حياة المسلمين الذين كانت بداية وجودهم في فرنسا بهوية كُتب فيها «فرنسي مسلم».