بقلم - عبد الرحمن شلقم
مرَّت عقودٌ عربيةٌ ساخنة منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين. انقلابات وثورات وحروب، وحدة وانفصال وشعارات تفوح وتزول بسرعة البخور.في مصر، وسوريا، والعراق، وليبيا، والجزائر، واليمن، والسودان، وموريتانيا، استولت الجيوش على السلطة، وكان لكل حركة بيانها الأول الذي ينطلق فجراً من الإذاعات الوطنية وتتلوه بيانات، وتبدأ حلقة الخطابات التي تفيض بنقد ما أسقطت ووعود ما أخذت. حركة واحدة، وهكذا كان اسمها عندما أعلنت، وهي استيلاء الجيش المصري على السلطة يوم 23 يوليو (تموز) سنة 1952 وإنهاء النظام الملكي. هذه الحركة التي أخذت في ما بعد صفة الثورة لا تغيب أبداً عن الذاكرة العربية. تحاكم بلا توقف، وتطوف بين مادح وقادح. هناك من يحمّلها ما حدث للعرب من انكسارات ونكسات، بل ويذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، فتلك الثورة هي التي فتحت شهيَّة الجيوش للاستيلاء على السلطة، وتمكين العسكر من فرض الأنظمة الزعامية الديكتاتورية، أضف إلى ذلك سلسلة الهزائم في حرب السويس والانهيار العسكري العربي المروع أمام الجيش الإسرائيلي في حرب الأيام الستة. جمال عبد الناصر يبقى هو النيشان الذي تطلق عليه نيران الاتهامات بلا توقف، ولا تسكت السنون فوهة بنادق الإدانة متعددة العيار. كما قال الإمام الشافعي:
وعين الرضا عن كلِ عيب كليلة.. ولكن عين السخط تبدي المساويا
وقد مرت 68 سنة على قيام تلك الحركة أو الثورة أو الانقلاب، فإن الزمن يقتضي أن نُلبس العقل عين الموضوعية التي لا تعطي حصانة لشخص أو حركة، التقييم والنقد أمر تفرضه صيرورة الحياة وخطورة أحداثها. جلد التاريخ بسوط الاصطفاف المسبق والانطباع والحكم الرغبوي لا يحقق شيئاً. كل مرحلة في حياة الشعوب قديمها وحديثها تحتاج إلى تفكيك وحفر، من أجل استخلاص ما يمكن أن يضيء طرق المستقبل. هناك حقائق كانت قائمة في حينها قادت إلى ولادة حالات محددة. عاشت مصر مرحلة مضطربة، اهتزت فيها الأحزاب، وزاد التدخل البريطاني في القرار المصري بحادث فبراير (شباط)، حيث فرض المندوب السامي الإنجليزي على الملك فاروق تشكيلة الوزارة وتمركز القواعد العسكرية البريطانية في البلاد، وانطلاق حركة شعبية لمحاربتها. ما عرف بالأسلحة الفاسدة في حرب فلسطين وحريق القاهرة وتغول الإقطاع، وما ذاع عن سلوك الملك وهيمنة حاشيته الإيطالية عليه، كل ذلك ولَّد حالة من الغضب والرفض بين المصريين، وفي مقدمتهم الضباط الشباب في الجيش المصري. فُقد الأمل في قدرة الأحزاب على إصلاح حقيقي. الضباط الأحرار الذين قاموا بالثورة، طاف بعضهم بين التنظيمات الحزبية من اليمين إلى اليسار، لكنهم أيقنوا أنَّها غير قادرة على تحقيق تغيير فاعل على الأرض. نجحت حركة يوليو بقيادة البكباشي - المقدم - جمال عبد الناصر الذي خاض معارك سياسية داخل مجلس قيادة الثورة، الذي قام هو بتشكيله ووضع على رأسه اللواء محمد نجيب، من أجل تسويق الحركة شعبياً بحكم رتبته وسمعته العسكرية. من يختلف مع عبد الناصر لا يستطيع أن ينكر قدراته السياسية التي تفوّق بها في المناورة داخل مجلس قيادة الثورة، ومع تكتلات عسكرية أرادت أن تفرض إرادتها على مسار الثورة. لم يخف عبد الناصر منذ البداية اندفاعه المستمر نحو الهيمنة على السلطة، وقد ردَّ على أحد زملائه عندما قال له أنت تريد الهيمنة على السلطة، ردَّ بنعم فأنا لي أهداف أصرُّ على تحقيقها، ولن أتمكن من ذلك من دون سلطة. كان هو أول من فكر بالثورة وبدأ تنظيم خلايا الضباط سرياً، وكان هناك شبه إجماع بين أعضاء الحركة على زعامته وقدرته القيادية.
هناك حقائق حاكمة في المسارات الداخلية والخارجية. عند سيطرة الضباط على السلطة، كان العالم يشهد تحولات كبيرة. الحرب الباردة بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي ترتفع وتيرتها وتتسع ويكون لها في الشرق الأوسط جولات عبر الأحلاف والاستقطاب السياسي الحاد. إسرائيل نظرت إلى ما حدث في مصر بعين التوجس والتربص وبدأت في ترتيب خرائط جديدة سياسياً وعسكرياً.
التنمية الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية، كانت أهدافاً تأسيسية للحركة، واتجهت إلى بناء السد العالي الذي يحتاج إلى تمويل خارجي، ولم توافق أميركا على ذلك إلا بشروط؛ مما دفع جمال عبد الناصر إلى تأميم قناة السويس. من هنا كان المنعطف الذي غير المسار السياسي لمصر والمنطقة. حرب السويس خلقت من عبد الناصر الزعيم العربي، بل والإقليمي.
لقد فوجئ بالتضامن العربي الكاسح فتسلح بقوة العروبة وناصر حركات التحرير والاستقلال؛ مما أعطاه قوة ضاربة مضافة، ولكنه فتح عليه في الوقت ذاته أبواباً لعداوات واسعة. بعد الوحدة مع سوريا وانهيارها والتدخل العسكري في اليمن، تغيرت كل قواعد المواجهة مع الغرب وإسرائيل. للزعامة الفردية أثمان قاتلة تتوالد بلا توقف. تفكك مجلس قيادة الثورة وانتشر الضباط في مفاصل الدولة، وكان لقوانين التأميم ارتدادات واسعة على فاعلية الاقتصاد المصري، وفتحت القاهرة مدافعها الإعلامية على الكثير من الأنظمة العربية، واضطر عبد الناصر إلى التحالف مع الاتحاد السوفياتي شبه مرغم لمواجهة التهديدات الإسرائيلية والسياسات الأميركية.
بعد مرور عقود سبعة على ثورة عبد الناصر، تبقى جلسات المحكمة مفتوحة، لكن بقوانين التاريخ وحقائق مرحلتها.
بلا شك كانت هزيمة يونيو (حزيران) كارثة بكل المقاييس، وتبقى آثارها اليوم غائرة في الأرض والعقل والضمير العربي، وهي الظل الغائم الذي يغطي الكثير من إنجازات جمال عبد الناصر. القرارات الكبيرة ثمنها رهيب في حالة الانتصار والانكسار.
لقد أخذ عبد الناصر ثمن انتصاره في السويس والسد العالي والقضاء على الإقطاع، لكنه دفع الكثير من ذلك في هزيمته أمام إسرائيل. ربما تكون قصيدة الشاعر العربي محمد المهدي الجواهري في رثاء عبد الناصر هي مرافعة الضمير العربي الموضوعية بكلمات لها قافية وبحر الصدق من دون تحيز، قال الجواهري: ينقض عجلاناً فيفلت صيده.. ويصيده لو أحسن الإبطاء.. دية الرجال إساءاتان، مقلل.. وأساء جنب مكثر وأساء.. لا يعصم المجدُ الرجالَ وإنما.. كان العظيمُ المجدَ والأخطاءَ.