فقد الجاذبية

فقد الجاذبية!

فقد الجاذبية!

 العرب اليوم -

فقد الجاذبية

بقلم - محمد الرميحي

أكثر ما يمكن أن يحدث لمتابع من سوء تقدير هو أن يتبع هواه في التعليق على الأحداث؛ لأنه إن فعل لا يفقد الموضوعية فحسب، ولكن أيضاً يضل الطريق، لذلك فإن الإجابة عن السؤال المردد بكثرة: هل يسقط النظام الإيراني بسبب الارتياب السياسي الواسع وحركة الشارع الاحتجاجية، يمكن الإجابة بـ«نعم»، ويمكن الإجابة بـ«لا»! أي مغامرة في اتخاذ رأي نهائي تفارق الصواب، وقد تأخذ إلى تخرص تبعد عن الموضوعية.
الذي حدث بالفعل نتيجة كل تلك الاحتجاجات أن النظام فقد جاذبيته للكثيرين في الداخل، والأهم للمؤيدين في الخارج، وخاصة الشيعة العرب، كما سوف يجري تفصيله.
بدأت فكرة التشيع كفكرة احتجاجية في التاريخ الإسلامي وجذبت في صورتها تلك شرائح كبيرة من المسلمين الذين لم يجدوا في الأنظمة القائمة قدرة على تلبية حاجاتهم المعيشية، وكانت تلك الشرائح في الغالب من الفقراء والمضطهَدين، لكن الفكرة ما إن تصل إلى السلطة حتى تصبح بعد فترة دولة تسلطية مطلقة، تفقد علاقتها بالواقع وتبتعد عن الناس على أساس أنها (مفوضة) من الرب، من هنا فإن التيار التشيُّعي الفقهي الأوسع دعا في الكثير من العصور إلى الابتعاد عن السلطة على أنها مفسدة، وبالتالي استعيض عنها بانتظار المُخلّص، واقتصر عمل الفقيه الشيعي على الولاية الخاصة، ولا ولاية عامة.
المعروف أن عدداً من الفقهاء المحدثين غيّروا ذلك التوجه العام، كما تبلور في النهاية في إقامة الجمهورية الإسلامية في إيران، ولكن الجدل ما زال قائماً.
عندما نقرأ تاريخ الدولة الشيعية بالمعنى السياسي على مر الزمان في التاريخ الإسلامي، وندرس قيامها وأفولها، نجد أنها في الغالب تقوم على خلفية مضطهَدين ومهمشين داعية للعدل، وما إن تتمكن من السلطة حتى يميل الحاكم (أياً كانت تسميته) إلى التسلط والاضطهاد وتبرير القتل، ولعل سيرة المنصور بن عبد العزيز، الذي اشتهر باسم الحاكم بأمر الله، تدل بشكل أكثر وضوحاً على الممارسات في أي دولة قامت على ذلك التصور.
الحاكم بأمر الله، رغم ما يقوله التاريخ عن إصلاحاته، فإنه منع الناس من أكل أنواع من الطعام، و«كان مسرفاً في القتل»، وقرر أنه عند ذكر الحاكم يتوجب أن يسجد الناس في أي مكان هم فيه! بل أجبر المجتمع على أن «لا تكشف امرأة وجهها؛ لا في الطريق ولا خلف الجنازة»! أي باختصار التدخل في سلوكيات الناس الشخصية، كما دخل صراعاً مع القوى الإقليمية التي كانت تحيط بمملكته، من ضمن الكثير مما ذُكر في أسباب سقوط تلك الدول تلازم عناصر ثلاثة «الفساد والاضطهاد وادعاء العصمة» هي التوليفة الثلاثية التي تُسهل في نهاية الأمر زوال السلطة، طالت في زمنها أو قصرت.
في الأربعين سنةً الماضية، تم ترويج السلطة في إيران على أنها هي مصدر الحكمة، ومشروعها هو المشروع المستحق الذي يتوجب أن يسود، مما أدى إلى ظهور صراع يمكن تلخيصه على أنه صراع بين «الشيعوفوبيا» و«السنوفوبيا»؛ أي تشويه العقائد كوسيلة للصراع السياسي، وهي عودة للعصور الوسطى للصراعات تذكِّر المتابع بالصراع الكاثوليكي البروتستانتي في القرون السابقة في أوروبا يشوبها الجهل وتسيُّد أمراء الحرب. وذلك خطيئة كلية، تمهيداً لتسلط جناح على آخر، وقومية على أخرى، كما كان في السابق واللاحق. تلك الثنائية، والتي أساسها سياسي، تحولت إلى مذهبي مع دخول مصالح شعبوية وقومية وتصورات تاريخية مخادعة أشعلت الصراع.
هذا الصراع استهلك الكثير من الطاقات الوطنية وفوَّت الفرص للتنمية، والأهم تجاوز شروط ومتطلبات العصر، وسمَّم العلاقات البينية، وخرب دولاً، إذ أتى بأدوات من عصر آخر من أجل فرضها، وبالقوة القاهرة، على الناس.
اليوم تكتظ السجون في إيران بعدد ضخم من السجناء السياسيين، كما أن القتل في الشوارع بلغ في أقل تقدير ثلاثمائة قتيل (حسب الإعلان الرسمي)، وقد نشر أطباء العيون تحذيراً بعدم استخدام بنادق الصيد في التصدي للمتظاهرين؛ لأنها تفقع عيونهم!
ما يتوجب التذكير به هنا هو أن «لمعان النموذج الإيراني» الذي جلب لمناصرته عدداً من الشيعة العرب بدأ يخفت، لقد أصبح الغضب عاماً لدى الشعوب الإيرانية، وما زال في تصاعد، وتبيّن أن الحكم الديني في الزمان والمكان قد فقد جاذبيته، كما فقد القدرة على تخليص نفسه من الفساد والقمع في آن واحد؛ كونه صاحب مرجعية قطعية لها علاقة بالماضي ولا تمتُّ إلى الحاضر أو المستقبل.
من الحقائق أن ليس كل الشيعة العرب كانوا مع ذلك النظام، تلك فرية آنَ وقت تفنيدها، ولكن كان البعض، لأسباب سياسية أو شعوبية، أو حتى مصلحية، أو ربما تعظيم لما كانوا يرونه من تهميش، شرعوا بمحاولة إلحاق أوطانهم قسراً بذلك المشروع على أنه «أفضل لهم»، وزعّموا عليهم رجالاً معممين لا يعرفون من السياسة أقل مفرداتها.
اليوم بعد تكشف الأمر وظهر للجميع إفلاس المشروع في عقر داره إفلاساً إدارياً واقتصادياً ومعنوياً، لم يعد لذلك البعض أي حجة يمكن أن يستظل بها لتبرير موقفه المناهض لمصالح أغلبية شعبية، بل بدأت بعض الكتابات علناً تنقد تلك المرحلة، وهي مرحلة حققت تراجعاً «لا تقدماً في الشأن العام» نتيجة حماقات من جهة، وقِصر نظر وإرهاب فكري من جهة أخرى.
الخيار هو الانخراط في المواطنة، وحتى الاختلاف في الاجتهاد داخل المواطنة لا خارجها، ومن يبقى في التحيز لمشروع فاشل، في الغالب يفعل ذلك لمصالح مادية بحتة لا غير.
هذا لا يعني أنه ليس هناك منغصات في العمل السياسي في الدول التي بها طوائف مختلفة، لكن معالجتها يتوجب أن تكون تحت سقف وطني، كما أن تلك المنغصات في الغالب هي عابرة للطوائف، وأي قصور في أداء الدولة يمكن تقويمه بالحوار الوطني الداخلي، أما الاستقواء بالخارج فتلك خطيئة يتوجب الكف عنها؛ فقد فقدت كل تبرير عقلاني، حيث إن ذلك النموذج ظهرت سوآته لناسه، وبقي حتى الآن على حساب حرية ورفاهية واطمئنان شرائح واسعة من شعوبه.

   

آخر الكلام:
رجل الدين «في الحكم» يتحلى بدرجة كبيرة من إنكار الواقع، وبإيمان خارق بالأشياء المستحيلة!

arabstoday

GMT 20:40 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

عندما يعلو صوت الإبداع تخفت أصوات «الحناجرة»

GMT 06:23 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

المبحرون

GMT 06:20 2024 الأربعاء ,10 تموز / يوليو

قرارات أميركا العسكرية يأخذها مدنيون!

GMT 06:17 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

تسالي الكلام ومكسّرات الحكي

GMT 06:14 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

كيف ينجح مؤتمر القاهرة السوداني؟

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

فقد الجاذبية فقد الجاذبية



إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الفخامة والحداثة بأسلوب فريد

عمّان ـ العرب اليوم

GMT 18:57 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

العين قد تتنبأ بالخرف قبل 12 عاما من تشخيصه
 العرب اليوم - العين قد تتنبأ بالخرف قبل 12 عاما من تشخيصه

GMT 08:36 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

أطعمة ومشروبات تساعد في علاج الكبد الدهني وتعزّز صحته

GMT 08:12 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

التغذية السليمة مفتاح صحة العين والوقاية من مشاكل الرؤية

GMT 06:06 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

راجعين يا هوى

GMT 19:32 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

رانيا فريد شوقي تكشف سبب ابتعادها عن السينما

GMT 08:18 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الجيش الإسرائيلي يعلن اعتراض مسيّرة قبالة سواحل حيفا

GMT 02:48 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

المحكمة العليا الأميركية ترفض استئناف ميتا بقضية البيانات

GMT 07:58 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

تحوّل جذري في إطلالات نجوى كرم يُلهب السوشيال ميديا

GMT 13:18 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

قطر ترحب بوقف النار في لبنان وتأمل باتفاق "مماثل" بشأن غزة
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab