بقلم: محمد الرميحي
سؤال طرحته من قبْلنا أجيال متعاقبة، ولا تزال إجابته عالقة لم تنتهِ إلى محصلة نهائية. في الذهن ما نحن فيه كعرب في القطار الحضاري الإنساني، والذي يسير بالأمم، صغيرها وكبيرها إلى الأمام، ونحن طبعاً لسنا وحدنا، ولكن الحديث هنا عنا، نحن على أفضل توصيف واقفون لا نتحرك وفي الواقع نتراجع.
لدي قضيتان أستأذن بعرضهما للتدليل، جزئياً، إلى ما ذهبت إليه في المقدمة، وأختار قضيتين مركزيتين من بين قضايا أخرى لا تقل أهمية.
القضية الأولى "النظر إلى الماضي" أو تكبيل التاريخ الماضي لحاضرنا المعاصر، وأمة حاضرها هو الماضي لا مستقبل لها. لقد غُمرنا في وسائل التواصل الاجتماعي في الأسابيع الأخيرة بعدد من المظاهر التراثية والتي فرضتها المناسبة، دخول السنة الجديدة وما فيها من ذكريات قديمة، وانشغل الجميع في نقاش حوادث مرت عليها قرون، من دون تبصر أن تلك أمة خلت لها ما أحسنت وعليها وزر ما أخطأت، وعقلياً، لا تحمل الخلاف من الأجيال اللاحقة تلك الأخطاء.
في التفسير وفي وقت ما قرأت كتاباً لبرنارد لويس، "أزمة الإسلام"، وهو شخصية في ثقافتنا العربية مختلف عليها، أكنت توافق لويس أو تعارضه، فذلك من حقك، ولكنه كتاب كان تعليقاً على حوادث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، فقال إنه عاد إلى كتابات أسامة بن لادن فوجد أنه يتحدث عن إحياء الخلافة الإسلامية. وعلّق لويس بالقول "إن الثقافة العربية تنظر إلى الماضي في معظم تجلياتها، أما الثقافة الغربية المعاصرة فإنها تنظر إلى الماضي على أنه تاريخ سابق". يقول لك محدثك في أي قضية خلافية إنه "تاريخ" It is history، كما أشرت، توافق أو لا توافق على مجمل أطروحات الرجل، إلا أن فكرة التاريخ المركزية في حياتنا المعاصرة هي موضوع مشاهد يحدث لنا يومياً، وإننا في الغالب ثقافة يتحكم فيها الماضي ونعود إلى الماضي في كل صغيرة وكبيرة، من دون منهجية، لمعرفة فعل "الزمن"، وأن أسباب ما حدث في الماضي قد تكون مختلفة كلياً عن أسبابها اليوم، ومع ذلك نتشبث به في الصغيرة والكبيرة باستشهاد قصص من الماضي.
بعض شركات طيراننا، عندما تبدأ الطائرة بالتحرك تسمع "دعاء الركوب" وقد يكون مستحباً عندما كان الناس يمتطون الجمال في السفر، ولكن لأي شخص له عقل، وفي ظروف السفر الحديثة السريعة والآمنه كل تلك العملية ليس لها معنى مقنع، وحتى كلماتها تتحدث عن "الغبار وعناء السفر"، ومع ذلك تصر بعض الشركات، نزولاً على "رأي أقرب إلى الجهل" أن يستمر!
أما بقية المظاهر، فهي تأتينا في مناسبة عاشوراء من زحف على البطون أو ضرب الجباه بالسيف، أو تمثيليات مختلفة عن ذلك الزمن. الأعجب أن يختلف ناسنا اليوم في من كان على حق ومن كان على باطل قبل أكثر من ألف عام، والسؤال المنطقي: لو عرفنا على وجه اليقين من كان على باطل، فما الفائدة في يومنا هذا؟ ويستطيع المراقب أن يسود صفحات من تلك المظاهر والأقوال، كقول أحدهم عند سؤال عن الصلاة في السفر الطويل الى أميركا يأتي الرد ولماذا تسافر إلى أميركا؟ فالسفر إلى "بلاد الكفر محرم" بل ذهب البعض الى بيع صكوك الغفران! واستدعاء الأنبياء في المناسبات. يفتي المفتون في الطب والفضاء والسياسة والاجتماع والاقتصاد والتركيبات الكيماوية وغيرها ركوناً على الماضي وهم لا يعرفون عن معظمها شيئاً اليوم، ويصدقها الجمهور المغيب عن الوعي.
القضية الثانية متعلقة بأسباب التقدم. في عام 2021 نشر في سلسلة كتب "عالم المعرفة" والتي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون في الكويت كتاب عن "النموذج الصيني"، وهو بالمناسبة متاح شبه مجاني على الشبكة العالمية لمؤرخ كندي. لفتني القول في ذلك الكتاب إن الصينيين بقوا دهراً طويلاً يعتقدون أن "كل شيء من أسباب الحضارة متوافر في ثقافتهم، وأي شيء قادم من الخارج لا يستحق أن يُتبنى"! ومن ثم تراجعوا بين الأمم، وتم استعمار جزء كبير من دولتهم، حتى اكتشفوا في النصف الثاني من القرن العشرين أن عليهم أن يغيروا تلك المعادلة المقفلة، فبدأوا باحتضان كل جديد يأتي من الخارج، ويسقطون ما كان يعارضه من سلبيات في ثقافتهم السابقة، وهكذا أصبحت الصين بعد سنوات ما هي عليه اليوم.
فقط مؤشر واحد يستطيع أي متابع أن يتحقق منه، وهو مستوى "البحث العلمي الصيني"... قبل ربع قرن فقط كان الإنتاج العلمي الصيني، أي عدد الأوراق البحثية المعتمدة والمحكمة المنشورة في مجالات العلوم البحتة والتطبيقية والاجتماعية، كانت الصين في آخر الدول تقريباً، ثم أصبحت، حسب ما أعلن العام الماضي 2021، الأولى عالمياً في البحث العلمي وعدد الأوراق العلمية هي الأكثر غنى، والأرقام متاحة على الشبكة الدولية، وما نتابعه من صراع اليوم بين الصين والولايات المتحدة هو "صراع على التفوق العلمي"، ومن هنا تخصص الولايات المتحدة في هذا السباق مليارات الدولارات على البحث العلمي! اليوم العلم الحديث سيد الموقف.
هاتان قضيتان في الغالب مناقشتهما تفتح أبواب الاختلاف وربما العداء الذي يصل إلى التهميش أو التشويش إن أمكن، والدافع أننا جميعاً نكره أن نناقش ما نعتقد أنها "ثوابت" وهي ليست كذلك من أي زاوية نظرت إليها، لهذا فإن تسييس الفضاء العربي على تلك القواعد (استخدام الماضي) والوقوف أمام أي أفكار جديدة بعدائية هي سمة شاملة لثقافتنا العربية، تعطل التقدم، ومن يجرؤ على "تعليق الجرس" إما يُهمل أو يُهمش أو تنهال عليه الاتهامات الجاهزة، هذا إذا لم يقتل معنوياً. أكبر أعداء ثقافتنا اليوم هو التفكير الحر، لذلك نجد كثيراً من دولنا تعامل الكتاب، بخاصة إن كان فيه رأي، أكثر من معاملة المخدرات، والكلمة تخيف أكثر من الرصاصة، في معركة غير معلنة اسمها تأخير الوعي، ثم نشتكي من سيادة التعصب وظهور تنظيمات مثل "القاعدة" و"داعِش"!