فقه الفتنة

فقه الفتنة!

فقه الفتنة!

 العرب اليوم -

فقه الفتنة

بقلم : محمد الرميحي

كما هو حاصل في كل عام في مثل هذه الأوقات، يحل شهر محرم بما فيه من مناسبات، على رأسها مناسبة عاشوراء التي يحتفل بها المسلمون، سنّة وشيعة كل بطريقته الخاصة. اليوم يصادف العاشر منه، يصوم بعض أهل السنّة هذا اليوم تبعاً لتقليد قديم معروف، ويقيم الشيعة من المسلمين شعائر خاصة، في ذكرى مقتل الحسين سبط النبي.

في دول الخليج، وهي دول فيها مجتمعات حدودية، عاش الشيعة والسنّة في الوطن الواحد منذ أن بدأت هذه المجتمعات تأخذ شكلها الحالي، وكان الآباء السنّة يحتفلون بعاشوراء بطريقتهم مع إخوانهم الشيعة.

مما أذكره من صباي، أن هناك موروثاً شفوياً يتناقل بين أهل السنّة في عاشوراء، منه أن من يأكل "عيش الحسين"، أي الأرز الذي يطبخ مع اللحم، وتقوم به حسينيات أهل الشيعة، يبقى في بطنه أربعين عاماً. وفي قول آخر سمعته أن من يأكل "عيش الحسين" لا توجعه أضراسه أبداً. بعد فترة عرفت لماذا كانت تسير تلك الأقوال بين أهل السنّة في ذلك الوقت، هي محاولة شعبية للتقريب بين جماعتين إسلاميتين في الوطن الواحد.

جدتي، وأنا صغير، كانت تتبرع للحسينية القريبة ببعض الخراف والقهوة والفناجين، بل تشارك في العزاء، وكان عزاءً بسيطاً تربّت النساء فيه على ركبهن بانتظام، وهن يستمعن إلى شخص معمم. الأفراد من أهل الشيعة كانوا يوزعون في ذلك الوقت الأكل المطبوخ (أرز ولحم) على الجيران والمعارف بصرف النظر عن انتمائهم المذهبي.

إنه عصر آخر غير هذا العصر، كان ذلك قبل أن يعرف جيلنا المتعلم أن أوروبا خاضت حرباً شعواء في قرون ماضية بين أتباع اجتهادين مسيحيين، الكاثوليك والبروتستانت، وسالت دماء لم ينتصر فيها أحد، فقط بعدما فارقهم التعصب تقدمت دولهم على أساس أن المذاهب لله والأوطان للجميع.

الذي حصل في هذا الزمان أنه نبتت لأهل الفتنة من الجانبين ممن يدعون الفقهاء الجدد أنياب حادة، وهي أنياب سياسية ومصلحية ولها في الغالب ثمن مدفوع بعملات مختلفة، نوعية ومادية!

لقد ظهرت في العقود الأخيرة فتاوى من الجانبين، معتمدة في الغالب على ما كُتب في الكتب الصفراء، إبان اشتداد الصراعات السياسية بين الأطراف المتصارعة على الحكم والسلطة، مشحونة بعبارات ومفاهيم تكفيرية لعالم المسلمين الذي كان يتفكك وقتها ومليء بالصراع السياسي، وضخم الخلاف بين أهل السنّة والجماعة وأهل التشيع.

اليوم يُنبش الماضي الكئيب من جديد، ونحن في عالم آخر. إنه القرن الحادي والعشرون، قرن المواطنة وحقوق الإنسان والمساواة في الوطن الواحد، هذا التطرف لم يكن معروفاً في مجتمعات الخليج التقليدية حتى فترة قصيرة من الزمن لا تتعدى نصف قرن تقريباً، ما يدل على أن ما نحن فيه هو سياسي بامتياز قبل أن يكون اجتهاداً في التفسير.

ما هي أسباب ذلك العداء المستحكم اليوم من البعض؟ هي جملة من الأحداث أولها وعلى رأسها التسييس الفج للأحداث والمواسم، وفئة من الناس في الجانبين مستفيدة، على حساب الوطن والمصالح العامة من تمزيق النسيج الاجتماعي للدولة الحديثة في الخليج تمهيداً لإطاحتها، خالطين بين أفكار عفّى عليها الزمن، ومصطلحات تكفيرية عُنفية بعيدة عن سماحة الإسلام.

تسلط تلك الأفكار المتخلفة على العامة، ولا يضار بها من يقول بها، بل يضار بها المجتمع ككل، ذلك فكر متخلف بالنسبة إلى دارسي الفقه الإسلامي على أصوله، إذ إن مقولات هؤلاء الفقهاء الجدد لا تحمل وهج الإسلام، ولا مقاصد الشريعة كما هي في مقاصدها الخيرة. كان الأزهر في الغالب، وحتى الحوزات في الغالب، تقود في فترة الصعود الفكري والوعي المجتمعي مسارات تنويرية تهتم بالجوامع وتطرد الشر بالخير وتقدم المصالح المشتركة على الأهواء، ثم طمس فقهاء الفتنة ذلك التنوير، كما شيطنوا تاريخاً من الإخاء والقبول من تاريخ مجتمعنا الحديث.

هذه المقولات التي يقدمها الفقهاء الجدد والتي تنم عن جهل فاضح وتكسّب سياسي خارج المنهج العلمي الذي تقوم عليه الشريعة الإسلامية، أو علم أصول الفقه الذي كان ميسراً لجيلنا في ما مضى، هي مقولات تسمم الأجواء وتنشر البغضاء، والخاسر الأكبر هو الوطن.

لقد وصلنا إلى مرحلة من الفجاجة يفتي فيها بعضهم بأن أكل ما يطبخه أهل الشيعة في مواسمهم حرام، كما وصلنا إلى تأليه غير المؤلّه من البشر وتقديم ممارسات للعامة ليست من ثوابت الحزن على الحسين أو تذكر مناقبه.

العجيب أن هذه القلة من الفقهاء الجهلاء هي من تسود الساحة اليوم، ويهمش أهل الفكر النير وأصحاب العقول الراجحة الذين يدعون إلى الفهم الصحيح لمقاصد الدين الحنيف، ويرون أن اختلاف الاجتهادات أمر شرعي ومقبول، حتى وصلنا إلى مرحلة مزرية من التسويق غير العقلاني ورفع الخرافة وأساطير الأولين إلى سقف أولويات المجتمع وصلب أجندته، في تغييب للوعي الجمعي غير مسبوق.

*نقلاً عن صحيفة "النهار"

arabstoday

GMT 19:33 2025 الخميس ,23 كانون الثاني / يناير

لا لتعريب الطب

GMT 19:29 2025 الخميس ,23 كانون الثاني / يناير

اللبنانيون واستقبال الجديد

GMT 14:05 2025 الخميس ,23 كانون الثاني / يناير

شاعر الإسلام

GMT 14:02 2025 الخميس ,23 كانون الثاني / يناير

الإرهاب الأخضر أو «الخمير الخضر»

GMT 14:00 2025 الخميس ,23 كانون الثاني / يناير

أخطر سلاح في حرب السودان!

GMT 13:56 2025 الخميس ,23 كانون الثاني / يناير

حذارِ تفويت الفرصة وكسر آمال اللبنانيين!

GMT 13:55 2025 الخميس ,23 كانون الثاني / يناير

أين مقبرة كليوبترا ومارك أنطوني؟

GMT 13:52 2025 الخميس ,23 كانون الثاني / يناير

نفط ليبيا في مهب النهب والإهدار

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

فقه الفتنة فقه الفتنة



أحلام بإطلالات ناعمة وراقية في المملكة العربية السعودية

الرياض ـ العرب اليوم

GMT 17:14 2025 الأربعاء ,22 كانون الثاني / يناير

عاصفة ثلجية مفاجئة تضرب الولايات المتحدة

GMT 11:55 2025 الخميس ,23 كانون الثاني / يناير

مصر والعرب في دافوس

GMT 11:49 2025 الخميس ,23 كانون الثاني / يناير

ليل الشتاء

GMT 17:05 2025 الأربعاء ,22 كانون الثاني / يناير

مانشستر سيتي يوافق على انتقال كايل ووكر الى ميلان الإيطالى

GMT 17:07 2025 الأربعاء ,22 كانون الثاني / يناير

كاف يحدد مكان وتوقيت إقامة قرعة كأس أمم إفريقيا 2025

GMT 03:19 2025 الخميس ,23 كانون الثاني / يناير

القوات الإسرائيلية تجبر فلسطينيين على مغادرة جنين

GMT 17:06 2025 الأربعاء ,22 كانون الثاني / يناير

بوروسيا دورتموند يعلن رسميًا إقالة نورى شاهين

GMT 17:04 2025 الأربعاء ,22 كانون الثاني / يناير

شهيد و4 إصابات برصاص الاحتلال في رفح الفلسطينية

GMT 17:10 2025 الأربعاء ,22 كانون الثاني / يناير

ارتفاع حصيلة عدوان إسرائيل على غزة لـ47 ألفا و161 شهيداً

GMT 09:58 2025 الأربعاء ,22 كانون الثاني / يناير

أنغام تثير الجدل بتصريحاتها عن "صوت مصر" والزواج والاكتئاب

GMT 09:48 2025 الأربعاء ,22 كانون الثاني / يناير

منة شلبي تواصل نشاطها السينمائي أمام نجم جديد

GMT 17:09 2025 الأربعاء ,22 كانون الثاني / يناير

ارتفاع أسعار الغاز في أوروبا إلى أعلى مستوى منذ نوفمبر 2023

GMT 09:23 2025 الأربعاء ,22 كانون الثاني / يناير

لغز اليمن... في ظلّ فشل الحروب الإيرانيّة

GMT 09:55 2025 الأربعاء ,22 كانون الثاني / يناير

هنا الزاهد تنضم إلى كريم عبد العزيز وياسمين صبري

GMT 19:45 2025 الأربعاء ,22 كانون الثاني / يناير

هل سيغير ترمب شكل العالم؟
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab