بقلم -محمد الرميحي
كتب ويكتب أهل الرأي في الكويت مقالات في الصحف يجمعها خيط واحد، هو محاولة إيجاد سبل ممكنة للخروج من الاستقطاب السياسي الذي يُقعد مفاصل الدولة عن الحركة، ويشتت قوى المجتمع، والكويت مثل غيرها في العالم وفي الجوار، تواجه جائحة غير مسبوقة تلقي بثقلها على المجتمع والدولة والجهاز الطبي والميزانية العامة حتى أصبح الحمل ثقيلاً. وعند البحث عن أسباب الاستقطاب تجد أن أساسه انقطاع الحوار المثمر بين الفاعلين السياسيين، والتخندق في الرأي والإصرار على النظر بعين واحدة. وتلعب وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة تلك المُجهلة والمتنمرة على الأشخاص والمؤسسات دوراً تخريبياً في تمزيق النسيج الاجتماعي، وتُبرز العصبيات الطائفية والقبلية إلى درجة مخيفة، بل ومهددة للأمن الاجتماعي.
حكومتان في ظرف أشهر قليلة، وتعطيل للبرلمان لمدة شهر، وتهديد علني لمساءلة الوزراء ولوم المسؤولين عن تطبيق القانون إن شرعوا في تطبيقه، وتشكيك في القرار الصحي المتخذ أياً كان، من دون النظر إلى أهميته أو دراسة ظروفه، وحتى رئيس الوزراء الذي يُهدد علناً من أناس ليسوا ذي صفة، قبل أن تستكمل الوزارة الاستحقاق الدستوري، وكأن الهدف هو الإطاحة بكل ما هو موجود وقائم في سبيل شيء غامض وغير محدد، ولا حتى متفق عليه بين القوى التي تطالب به! في هذا الخضم المتلاطم ينتفي وجود تيار أو رأي شبة جماعي يشكل الوسطية والدعوة إلى هامش مشترك يسيّر الدولة ويحقق الاستقرار في بيئة إقليمية شديدة الاضطراب. البعض يفسر هذا الاستعصاء فيذهب إلى القول إن ما رُكب منذ أكثر من ستة عقود (إعلان الدستور الكويتي 1962)، وإن كانت نصوصه العامة ما زالت قابلة للتطبيق، إلا أن هناك نصوصاً تحتاج إلى إعادة نظر، منها على سبيل المثال، مشكلة ربط عدد أعضاء المجلس المنتخب إلى صلب الدستور، وأصبح من الصعب تغيير العدد مع قفزة في التغير الديمغرافي الذي تم في العقود الستة الماضية الذي ضاعف عدد السكان نحو سبع مرات عما كان عليه عام 1962، وكذلك السكوت عن تنظيم المجموعات السياسية التي تتطلبها الممارسة السياسية الحديثة، وهي المنابر أو الأحزاب، فلا يوجد مجتمع ينظم انتخابات دورية لمجالس تشريعية منتخبة إلا ويكون هناك قوى سياسية منظمة، وفي غيابها يلجأ المجتمع تلقائياً إلى ما يعرف من قوى لتنظيم نفسه، وفي هذه الحالة بالضرورة تبرز القبلية والطائفية، ويستخدم المال السياسي للوصول إلى الكرسي، الذي يستطيع البعض من خلاله أن «يستفيد ويفيد» قاعدته الانتخابية الضيقة. هذا العوار المزمن رجع إليه عدد من أهل الاختصاص والرأي ونوقش في ندوات أهلية، إلا أن الحراك نحوه أو حتى مناقشته بشكل مؤسسي لم تُفعل حتى الآن، رغم أهميتها لتطوير الممارسة. البعض يرى أن العوار هو في قانون الانتخاب والذي يحصر الأصوات بشخص واحد في المنطقة الانتخابية، وهي اليوم خمس دوائر كبرى، ويرى أن إصلاح النظام الانتخابي صار ضرورة من حيث عدد النواب وعدد المسموح بانتخابه في الدائرة الواحدة وحتى عدد الدوائر، وأن اقتراحاً بتوسيع قاعدة عدد النواب وإصلاح النظام الانتخابي وربما على درجتين بحيث لا يصل إلى المقعد إلا من حصل على نصف عدد الجمهور الناخب، والتمييز الإيجابي للمرأة الكويتية، والتي تحرم من النجاح بسبب ذكورية شديدة في المجتمع، قد يشكل إصلاح النظام مرحلة تخليص المجتمع من الاحتقان، وتوسيع دائرة المشاركة وتقلل من الاستقطاب.
الجمهور الكويتي أرسل رسالة واضحة من خلال نتائج الانتخابات الثامنة عشرة والأخيرة 2020، وهي عدم نجاح نسبة كبيرة من الأعضاء السابقين في مجلس عام 2016، وهي إشارة إلى أن عدم الرضا يمكن أن يتكرر في أي انتخابات قادمة؛ ذلك المؤشر أحد أسباب الاحتقان والتصعيد، والخلل فيه أنه تصعيد غير منتظم وغير محدد ببرنامج، عدد من «الكتل» النيابية تتشكل وسرعان ما تتغير بشكل دوري، ولم تستقر على برنامج مشترك قد يفيد الجمهور الأوسع، كل ما تتفق عليه هو «الإطاحة» بالوزير الذي يتساند ضده كثيرون؛ لأن بعضهم يرى في ذلك «شعبوية» يجب ألا تُفوت. البعض يرى أن الأزمة هي «أزمة نفوس وليست أزمة نصوص»، أزمة رفض وأزمة ضغط، إلا أن الهدف أو الأهداف غير متفق عليها من الأغلبية في المجلس المنتخب الجديد، والذي تعثرت أعماله في الوقت الوبائي والاقتصادي الصعب، شرائح من الكويتيين تنتظر الإنجاز والانحياز للخير العام. بعد هذه السنوات الطويلة من الممارسة الانتخابية وبعد كل هذا العدد من المجالس والتي تكاد تناهز العشرين، لم يحصل تراكم خبرة، يجعل من العمل البرلماني وكذلك الحكومي في الكويت يتم بانسجام من دون الكثير من المطبات الصعبة، لقد تم حل عدد من المجالس لأسباب مختلفة في هذه التجربة الطويلة نسبياً، وهو مؤشر على أن هناك خللاً يبتعد أهل القرار من نواب ومؤسسات رسمية من الاقتراب منه.
هناك بعد آخر في سبب اضطراب التجربة لم يناقش بشكل واسع، وهو تأثير شكل الاقتصاد الريعي على السلوك السياسي؛ فذلك الاقتصاد الذي هو ليس تقليدياً بمعنى اقتصاد إنتاج وخدمات كما في بقية معظم دول العالم، يعتمد على ما تقدمه الدولة من فرص تشغيلية واستثمارية، سواء من خلال التوظيف في مؤسسات الدولة، أو تلزيم المشروعات المختلفة التي تطرحها؛ لذلك فإنَّ الدولة مصدر وحيد للتشغيل من خلال الميزانية العامة التي يتطلع إليها البعض من أجل تسهيل الحصول على مزايا وامتيازات من جهة، كما أن وجود جمع من المناصرين لبعض الأعضاء في أماكن اتخاذ القرار، يسهل تمرير تلك المزايا والخدمات والذي قد يقع بعضها في أماكن رمادية من القانون. الأزمة إذن مركبة وتتداخل فيها المواقف الشخصية والمؤسسية، وتؤثر فيها عوامل الضغوط الاقتصادية والاصطفاف غير المعلن لقوى سياسية منظمة أو شبه منظمة، ولكن ليست قانونية، كما يؤثر فيها الوعي من جهة، وقلة الوعي من جهة أخرى، كل ذلك في بيئة مفتوحة من وسائل التواصل الاجتماعي يتزامن ذلك مع ابتعاد أو تهميش أهل الخبرة والرأي وغياب رأي عام مؤثر وسطي بعيد عن المصالح، وضعف واضح في مؤسسات المجتمع المدني؛ فهي مقيدة بقيود قانونية تضيق عليها هامش المشاركة الفعالة. أمام تلك الصورة العامة، فإنَّ الأزمة مرشحة للاستمرار، في غياب قرار حاسم ينقذ البلاد والعباد من هذا الاستقطاب.
آخر الكلام:
من شعارات التهديد «الوعد في الجلسة الأولى» يطلقها بعض الأعضاء وتشعر المراقب أننا في حارة نشب بين «فتواتها» صراع!