قصة مدينتين غرباء من نعمة إلى نقمة

قصة مدينتين... غرباء من نعمة إلى نقمة!

قصة مدينتين... غرباء من نعمة إلى نقمة!

 العرب اليوم -

قصة مدينتين غرباء من نعمة إلى نقمة

بقلم : د.محمد الرميحى

للروائي البريطاني شارلز ديكنز رواية بعنوان «قصة مدينتين»، وهي قصة عاطفية جميلة لما فيها من الإثارة والتشويق، كما أن بها الكثير من الرسائل، وخاصة لأحداث الثورة الفرنسية التي حدثت في أواخر القرن الثامن عشر (1780 - 1799)، نُشرت في عام 1859 بعد نصف قرن من الأحداث الدموية التي عصفت بأوروبا.

القصة تدور بين مدينتي لندن وباريس، وتتحدث عن الأسباب التي قادت إلى الثورة الفرنسية وصدى ذلك في بريطانيا، وتحكي قصة التوحش الذي اتصفت به الطبقة الأرستقراطية والصراع بين شرائحها المختلفة، وأيضاً كمية القمع الذي تفرضه تلك الطبقة على الطبقة العمالية والفلاحية.

ولأن الأدب الإنساني المؤثر لا يموت، فإن تذكرها اليوم بعد أكثر من قرن ونصف القرن من الزمن، هو شبهُ الحاضر مع الماضي. الأحداث التي قادت إلى الثورة، وهي التي وصفت بـ«أم الثورات» في العصر الحديث يرسمها ديكنز من خلال سرد كيف يمارَس القانون في تلك الأجواء الأرستقراطية وبانتقائية شديدة؟ فقد قام أحد الأرستقراطيين بدهس ابن فلاح وقتله، ورمى الأرستقراطي حفنة من المال للفلاح الذي لم يكن ليرضى بأي مال يعوض عن ابنه، ذلك الحدث في مخيلة ديكنز هو الذي قاد إلى الهجوم على السجن الرهيب، «الباستيل»، ومن ثم قيام الثورة التي طاولت طبقة كاملة من المجتمع الفرنسي وقتها وأثرت أيضاً في المجتمع الإنجليزي وشاع تأثيرها في أوروبا.

هل يكرر التاريخ نفسه؟ ربما ولو بطرق مختلفة، إلا أن الأساس يكاد يكون هو نفسه.

الأسبوع الماضي شهدت العاصمة الفرنسية باريس وعدد من المدن الفرنسية شكلاً من أشكال الفوضى بسبب قتل شرطي شاباً في مقتبل العمر من أصول مهاجرة، وهي الشرارة التي أطلقت الغضب بين شرائح مهمشة وغير معتنى بمطالبها كمواطنين فرنسيين، بل إن هناك يميناً متطرفاً لا يكلّ ولا يملّ عن تذكير تلك المجاميع من الناس بأنهم غرباء وغير مُرحّب بهم، وأن أسماء وألقاباً وديانات غير مرحب بها في العمل أو غيره، ولا تحصل على الخدمات التي يحصل عليها المواطن، وكان هناك تاريخ من الإنكار الذي مارسته الحكومات الفرنسية في نصف القرن الماضي، من دون اعتراف بأن تلك المجاميع البشرية قد قدّم آباؤهم خدمات للجمهورية، منها خوض الحروب عن الجمهورية الفرنسية وأيضاً المساهمة النشيطة في الصناعة والأعمال المختلفة، حيث شجّعت حكومات سابقة مجموعات بشرية من شمال أفريقيا ومن أفريقيا السوداء للقدوم للعمل في الأعمال الشاقة في فرنسا إبان الحرب العالمية الأولى وبعدها.

على الجانب الآخر، تواجه بريطانيا وعاصمتها لندن سلسلة من الإضرابات في السكة الحديد وفي الخدمات الصحية وفي التعليم وقطاعات أخرى، وتلك الإضرابات أصبح لها أشهر عدة، كما تواجه في الوقت نفسه تدفق المهاجرين غير القانونيين، بعد أن شجّعت في عقود سابقة هجرة اليد العاملة من أجل القيام بالأعمال الصعبة والتي لا يُقبل عليها وقتها المواطن البريطاني. وهي في شكل منها تماثل الموقف الفرنسي، أي في استقبال مهاجرين تحتاج إليهم في نهضة الصناعة، ثم قفل الباب بعدها عن أمثالهم، في الوقت الذي يشارك «ملوّنون» من أبناء الهجرة في قمة العمل الحكومي، سواء في باريس أو لندن! الملاحظة، أنه بمجرد انتشار الفوضى في باريس قامت لندن من خلال برلمانها بتغليظ العقوبات على التظاهر. كما يشارك في الإدارة الفرنسية عدد وازن من شخصيات ذات أصول مهاجرة، مثل نجاة بلقاسم، المتحدثة باسم الحكومة في عهد شيراك، ورشيدة داتي، وزيرة العدل في عهد ساركوزي، وأخيراً وزير الداخلية الحالي جيرالد موسى دار مانان.

المفاجأة في الدراسات الاجتماعية التي تمت في هذا الملف «دور المهاجرين القدامى في توجهات الإدارة في المجتمعات الغربية»، أن الميسورين منهم أكثر تشدداً بشكل عام ضد الهجرة الجديدة من السكان الأصليين، وهذا يساعد وينسجم مع التيار اليميني المتصاعد في دول أوروبا وهو معادٍ في مجمله «للقادمين الجدد» وليس من المستبعد إن قويت شوكته أن يوجّه نيرانه السياسية ضد المهاجرين القدماء، وربما النقطة الأخيرة هي التي جعلت من شباب مهاجرين من الجيل الثالث، يقومون بما قاموا به من أعمال تخريب وسرقة وحرق، بل ومحاولة قتل في باريس وضواحي المدن الأخرى.

وتشير الأرقام إلى أن 25 في المائة من القوة العاملة في الخدمات الصحية الحكومية في بريطانيا هي من أصول خارج الجزيرة البريطانية، وهي نسبة وازنة، إلا أن رئيس الوزراء (وهو من أصول مهاجرة) يعلن خطة وطنية للاستغناء عن تلك النسبة بإحلال «مواطنين» بدلاء عنهم وصرف مبالغ كبيرة من الخزانة للتعليم والتدريب من أجل تنفيذ تلك الخطة!

ما لاحظه شارلز ديكنز قبل أكثر من قرن ونصف القرن يمكن ملاحظته اليوم، وهو «إنكار» الواقع الذي يعيشه أغلبية الناس، في السابق كان هناك إنكار للفقر المتسع بين الفلاحين والعمال في الصناعات الناشئة حديثاً «قبل الماكينة وتطورها» وبين الأرستقراطية المتحكمة في المال والاقتصاد والسلطة، وهي اليوم من جديد «إنكار» لواقع أن المجتمع يتغير ويصبح أكثر تلوناً وأكثر تنوعاً واختلافاً وبعضه أكثر فقراً وبطالة وتهميشاً، ومن العبث فرض لون واحد أو ثقافة سائدة واحدة أو الغفلة عن المطالب!

الإشكالية التي تواجه هذه المجتمعات أن الآليات الديمقراطية المعمول بها في الدول لا تتسع لهضم التعدد والاختلاف، وبخاصة التعدد العرقي والثقافي، هي تخضع لما يتطلبه الجمهور، وهو في الغالب يطلب التخلص من تلك التعددية الملونة «لأنها تلوث» المجتمع النقي الذي أفرزته ثقافة استعلاء السكان الأصليين...

آخر الكلام: الافتتاح العذب لـ«قصة مدينتين» يقول ديكنز «كان أحسن الأزمان وأسوأ الأزمان، كان عصر الحكمة وعصر الحماقة، كان مهد الإيمان ومهد الجحود، ربيع الأمل وشتاء القنّوط...» هل يصف الرجل عصرنا؟

arabstoday

GMT 13:05 2024 السبت ,05 تشرين الأول / أكتوبر

حزب الله بخير

GMT 11:57 2024 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

مرحلة دفاع «الدويلة اللبنانيّة» عن «دولة حزب الله»

GMT 11:55 2024 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

هل هذا كل ما يملكه حزب الله ؟؟؟!

GMT 20:31 2024 الجمعة ,13 أيلول / سبتمبر

عشر سنوات على الكيان الحوثي - الإيراني في اليمن

GMT 20:13 2024 الخميس ,12 أيلول / سبتمبر

صدمات انتخابية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

قصة مدينتين غرباء من نعمة إلى نقمة قصة مدينتين غرباء من نعمة إلى نقمة



إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الفخامة والحداثة بأسلوب فريد

عمّان ـ العرب اليوم

GMT 07:58 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

تحوّل جذري في إطلالات نجوى كرم يُلهب السوشيال ميديا
 العرب اليوم - تحوّل جذري في إطلالات نجوى كرم يُلهب السوشيال ميديا

GMT 07:25 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية راقية تجمع بين الطبيعة الساحرة وتجارب الرفاهية
 العرب اليوم - وجهات سياحية راقية تجمع بين الطبيعة الساحرة وتجارب الرفاهية

GMT 07:39 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

كيف تختار الأثاث المناسب لتحسين استغلال المساحات
 العرب اليوم - كيف تختار الأثاث المناسب لتحسين استغلال المساحات

GMT 18:57 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

العين قد تتنبأ بالخرف قبل 12 عاما من تشخيصه
 العرب اليوم - العين قد تتنبأ بالخرف قبل 12 عاما من تشخيصه

GMT 12:55 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

دينا الشربيني ورانيا يوسف تستعدّان للقائهما الأول على المسرح
 العرب اليوم - دينا الشربيني ورانيا يوسف تستعدّان للقائهما الأول على المسرح

GMT 08:36 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

أطعمة ومشروبات تساعد في علاج الكبد الدهني وتعزّز صحته

GMT 08:12 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

التغذية السليمة مفتاح صحة العين والوقاية من مشاكل الرؤية

GMT 06:06 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

راجعين يا هوى

GMT 19:32 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

رانيا فريد شوقي تكشف سبب ابتعادها عن السينما

GMT 08:18 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الجيش الإسرائيلي يعلن اعتراض مسيّرة قبالة سواحل حيفا

GMT 02:48 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

المحكمة العليا الأميركية ترفض استئناف ميتا بقضية البيانات

GMT 07:58 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

تحوّل جذري في إطلالات نجوى كرم يُلهب السوشيال ميديا

GMT 13:18 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

قطر ترحب بوقف النار في لبنان وتأمل باتفاق "مماثل" بشأن غزة

GMT 01:58 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

حزب الله يستهدف مناطق إسرائيلية قبل بدء سريان وقف إطلاق النار

GMT 07:25 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية راقية تجمع بين الطبيعة الساحرة وتجارب الرفاهية

GMT 07:39 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

كيف تختار الأثاث المناسب لتحسين استغلال المساحات
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab