بقلم : د.محمد الرميحى
تاريخ الحروب الأهلية يبيّن من دون لبس أنها إنْ بدأت قد تطول، وهذا ليس بالاستثناء بل القاعدة، فهي تأخذ في العادة من أربع الى ثماني سنوات يحرق فيها الأخضر واليابس، لذلك من يفكر بأن الحرب السودانية (الأهلية) العسكرية قد تنتهي في غضون أسابيع عليه أن يفكر ثانية، هي تهدأ ثم تثور، ولذلك فإن السودان أمام مأزق التمزق والفوضى. ومع الرصاصة الأولى التي تنطلق في الحرب الأهلية تنطلق معها ظاهرتان على الأقل، الفوضى العامة والتدخل من قوى خارجية، سواء كانت دولاً أم جماعات ترى أن لها مصلحة في التدخل أو فرصة للاستفادة.
الفوضى بدأت في السودان كما نرى أمام أعيننا، فهناك نهب للبنوك والصيدليات والمنازل والمخازن التموينية واغتيالات واقتحام سجون ومستشفيات، وهناك قتل على الهوية وأخذ بالثأر من الآخرين الذين كانوا أعداء ولم يتمكن منهم من قبل، كما أن إطلاق المسجونين، وبعضهم من عتاة المجرمين، يطلق دائرة جهنمية من العنف والعنف المضاد.
الجيش السوداني غير قادر، مهما قيل عن عدته وعتاده، أن يحسم حرباً أهلية، والميليشيات المسماة "قوات التدخل السريع" غير قادرة على الحسم، لقد تحول الجيش السوداني مبكراً الى "جيش عقائدي" بعد ثلاثين عاماً من حكم البشير ورفاقه في الإسلام الحركي، كما لا تخلو "التدخل السريع" من تلك النزعة، لذلك صيحة الاثنين بعد إطلاق الحمم "الله اكبر" وهو أكبر منهم. كما أن الأهداف المراد تحقيقها للطرفين غير واضحة أو محددة، فقط كمٌ ضخم من الادعاءات المكررة والشعارات المعروفة تدغدغ مشاعر العوام، وتبخرت في الهواء فكرة تسليم السلطة الى المدنيين من قاموس الطرفين، وبدا أن الهدف هو الحاجة للاستحواذ على السلطة لا غير، كلاهما يقصر عن التصريح بما يريد، لقد اختفت أفكار المشاركة والمجتمع المدني واتفاقية الإطار وما قبلها.
هناك قوى مستعدة للتدخل بالسلاح لتحيق مصالح لها، سواء قوى لها علاقة بالدول المختلفة، قريبة أو بعيدة، أم قوى إيديولوجية تنتشر في القارة الأفريقية، وهي قوى متشددة مثل "القاعدة" و"داعش" و"بوكو حرام" وغيرها من القوى غير المنضبطة التي تنتعش في أجواء فراغ السلطة وحروب الإخوة الأعداء، وسوف يرحب بها كل طرف من جهته لعلها تسانده ضد الآخر.
أمام العالم دولة في طريقها الى الفشل وتفقد سيادتها بمرور الأيام، من أجل فرض سيادات مختلفة على بعض أجزائها، وقد يبقى السودان في ملفات الحرب المنسية كمثل الصومال وغيره من الدول التي شهدت تفكيكاً ونسياناً من العالم في انتظار استنزاف القوى المختلفة بعضها بعضاً.
في حال الاحتمال الأول، أي أن يقود الجيش الحسم النهائي، فإن جنرالات هذا الجيش سيسعون في وقت لاحق للانقلاب على القيادة لأسباب مختلفة أقلها تحميل تلك القيادة أسباب الأزمة والخسارة الكبيرة التي لحقت بالجيش نفسه، وفي حال الاحتمال الأضعف، أي أن تسود مجموعة التدخل السريع (وهذا مستبعد ولكنه محتمل) فلن يخضع السودان لهذه المجموعة ولن تستطيع حكم السودان، بل ستستمر الأزمة مع استنزاف هائل لما بقى في السودان من موارد.
من الطبيعي أن تدخل الخرافة في تفسير الأحداث، فقد وجد بعضهم تفسيراً لحرب الإخوة-الاعداء في السودان. هي بسبب اتفاق "المتآمرين" من الفريقين، للإطاحة بـ "الرجال الطيبين" من جماعة عمر البشير وحكم الإنقاذ!! لذلك وقع الشقاق بينهم! وهذا مثال على دخول الخرافة إلى الساحة ترويجاً لاستقرار متخيل صنعه النظام السابق تحت ظل الإسلام الحركي.
يبدو أن المجتمع المدني السوداني غير قادر أو غير راغب في رفع صوته، ربما انتظاراً لما ستنجلي عنه الأمور، أو أن القوى المدنية كالعادة منقسمة، ربما بعضها في الخفاء يؤيد هذا الطرف أو الآخر. ولكن الواضح أن كل الأطراف المدنية صامتة ومتفرجة فقط.
الكثير من الحروب الأهلية اندلعت بسبب اختلاف الهويات العرقية أو الدينية أو المذهبية أو الجهوية، حرب السودان الحالية لا يبدو أنها كذلك، ولكن في الغالب أنها ستنزلق الى حرب هويات، بمعنى أن الاحتمال في حال إطالة أمد الحرب (وهذا ممكن) أن يتفكك السودان وتذهب الأطراف، وبعضها مسلح الى الاستقلال عن الدولة المركزية، وقتها فإن تقسيم السودان يكون حقيقة واقعة وربما يتحقق ما يعرف بـ "القبرصة" أي التقسيم الإثني المغمور تحت سطح النزاع العسكري الحالي.
لقد تمت محاولة زواج قسري بين الجيش المتعدد الإثنيات، وبين التدخل السريع ذي اللون القبلي، ولكن هذا الزواج بدا مستحيلاً، وعندما أريد فرضه تفجرت الأوضاع كما نراها اليوم.
سحب القوى المؤثرة سفراءها وإغلاق السفارات وترحيل المواطنين، مؤشر الى معلومات مؤكدة لديها عن أن الوفاق ليس قريباً بين المتحاربين، وأن الحرب في أولها لا أكثر، كما أن حجم المهجرين من غير السودانيين، يدل الى كم من النشاط الاقتصادي ليس بالقليل، وهذا يعني أن عدداً كبيراً من اليد العاملة الأجنبية التي كان قد استوعبها الاقتصاد السوداني قد خسرها في بضعة أيام.
كل الحروب الأهلية تنتهي عندما تنهك قدرات الطرفين وتستنزف طاقتهما، والحرب السودانية في بدايتها، لذا فإن حل التفاوض بين الأطراف، والذي دائماً تنتهي به الحروب الأهلية، ليس مطروحاً على الطاولة بعد، كل فريق يعتقد (وهو بالتأكيد على خطأ) أنه سيفوز في نهاية الأمر، ويبحث الآن عن حلفاء من الخارج ويقدم لهم الوعود من أجل ترجيح كفته. الخاسر الحقيقي هو شعب السودان الذي لم تستطع نخبته التوافق منذ أكثر من ثلاثة أرباع القرن ولن تفعل!!!