ظاهرة اجتماعية سياسية في معظم فضائنا العربي، تتمثل في الانقلاب السريع من التأييد الكامل وولاء التزلف للأشخاص أو الأنظمة، إلى النقد اللاذع المحمل بكراهية مريرة، بمجرد أن يسقط النظام.
سعد بيومي في روايته «يوميات سعد عباس: 1952-1958»، أي الست سنوات بعد قيام الثورة المصرية، يسرد للقارئ كيف تحولت صحف وأشخاص وأحزاب، من اعتبار الملك فاروق وكأنه من سلالة القديسين، إلى رجل فاسد ومغامر وشرير، نفس الصحف ونفس الأشخاص، كما نذكر بيتاً لشاعر عراقي يخاطب فيه صدام حسين حيث يقول له: «لولاك ما ظهر القمر»!! غير مجموعة الألقاب والكرامات التي وصفت صدام بأوصاف كادت أن توصله إلى سلالة القديسين، ثم انقلب الجميع بعد ذلك، فبانت حفلات القتل والشر والجهل في شخصيته وأقربائه بعد سقوطه.
ويكاد المرء أن يجد نفس الظاهرة فيما بعد بشار الأسد، لقد انقلب مباشرة رجال قريبون جداً منه ونظامه وكانوا يدافعون عن نظامه بأحط الكلمات ضد الآخرين معارضين أو دولاً عربية، وما إن سقط حتى رفعت راية التجريح والسخط، على نظام كانوا فيه من عظام الرقبة.
كيف نفسر هذه الظاهرة؛ الولاء الأعمى والدفاع عن الشر، ثم الانقلاب عليه بعد ذلك انقلاباً وكأنه يرى تلك المساوئ لأول مرة؟
إنها ظاهرة «المجتمعات المعنفة» التي تقوم فيها السلطة بإخضاع الجميع إلى نمط من التفكير الشمولي، ينتشر في المجتمع، ومن يزايد يقترب من السلطة أكثر، التي ديدنها التعنيف، ولقد شهدنا وزراء وسفراء وفنانين يكيلون المديح لكل شاردة وواردة من تلك الأنظمة الاستبدادية، ثم ينقلبون عليها.
في الثمانينات من القرن الماضي، كان هناك اجتماع لوزراء الخارجية العرب في الكويت، وكان الخلاف على أشده حول بعض الملفات؛ حيث حمل الثوريون العرب، إن صح التعبير، كل جهلهم إلى المنصات العامة والمنابر السياسية، وحاول العقلاء تبصيرهم بالمخاطر، فإذا بالمرحوم وزير الخارجية السوري وقتها عبد الحليم خدام يستشيط غضباً في النقاش، فيوجه كلاماً خارجاً عن السياق؛ ليجد رداً مناسباً من سعود الفيصل رحمه الله. تلك هي الثرثرة الآيديولوجية التي يتبناها العاملون في الأنظمة الاستبدادية؛ حيث تخرج عن التفكير العقلاني.
ويمكن تسمية مثل هؤلاء بحملة المباخر، فقد أصبح خدام في وقت لاحق أكثر شراسة ضد النظام الذي خدمه.
في رواية «يوميات سعد عباس»، يقول قريبه الذي يعمل في البوليس السياسي، محذراً إياه من العمل بالسياسة، ورداً على سؤال كيف تخدم النظام الجديد وأنت كنت جزءاً من النظام القديم، قال لقد غيروا الرئاسات لا السياسات!
الخوف يظهر أبشع ما في الإنسان، معظم السجانين الصغار في سجن صيدنايا الرهيب في الغالب قاموا بعملهم خوفاً من العقاب، وكان تصورهم أنهم كلما قسوا على السجناء وأذلوهم، رضي عنهم الذين أوكلوا لهم تلك المهمة، وما ظهر من فظائع في سجون ومعتقلات الأسد الأخرى تنفر منه البشرية، ويسأل الإنسان نفسه، أي بشر يبرر لنفسه ما تم فعله من فظائع.
من بقي على قيد الحياة من الذين عملوا مع صدام حسين يرون أيضاً الهوائل من الأحداث، ومتوفر اليوم على الشبكة الدولية أو في المقابلات التي سجلت للبعض منهم ما يكفي أن يعرف الناس كم من احتقار للإنسان، قامت به تلك الأنظمة، وما زال بعضها في المنطقة تحت شعارات «تصدير الثورة» تقوم بنفس الممارسات، ويكذب متحدثوها «كذب الإبل» على مستمعيهم ومشاهديهم في التسويق لتلك الأنظمة، وهم أول من يعرف أن ما يقولونه دافعه الخوف، فهم يعيشون في مجتمع معنف لا صوت يعلو إلا المزايد.
المجتمعات المعنفة لا تستطيع أن تبني تنمية، ولا تستطيع أن تحارب وتنتصر، ولا تستطيع أن تُشيد أوطاناً، هي تأكل نفسها بنفسها، وأمامنا اليوم تجارب سودان البشير، وسوريا الأسد، وعراق صدام، وليبيا القذافي وما قبلهم ومن سوف يأتي بعدهم بنفس صراخ الشعارات وسيوف القمع.
لقد فشل «حزب الله» في الدفاع عن بعض بيئته في الجنوب اللبناني، كما فشل النظام السوري في البقاء، رغم استنجاده بقوى كبيرة، وانقسمت ليبيا على نفسها، وما زالت تجربة التعافي في العراق معوقة، تحمل الكثير من إرث الماضي، لقد تركت كل تلك الأنظمة مجتمعاً معنفاً، يحمل جرثومة عدم التعايش مع غيره، وحتى مع نفسه.
الخروج من ذلك المأزق صعب ومكلف، ويحتاج إلى رجال تُحسن قراءة الأحداث، وتقدم ترياقاً يرمم ما قد قام به العسكر أو شبه العسكر من تمزيق لنفسية الإنسان.
آخر الكلام: رغم كل ذلك العنت فإن رجلاً ونساء قد قاوموا الاستبداد، بعضهم بأرواحهم وآخرون بمستقبلهم، كما فعل، كمثال، قيصر، الذي هرّب الصور المرعبة لبشاعة النظام السوري.