بقلم : د.محمد الرميحى
"تحدث حتى أراك"! حكمة قديمة وأصيلة عرفتها أجيال مختلفة من البشرية، وأصبحت الثقافات تسير على نهجها في ضرب الأمثال في العلاقة الوثيقة بين الكلام والشخصية، كقولنا في الخليج "من كثر هذرة قل قدره"! المعنى العام للمثالين واضح، فأنت إن تكلمت عُرف من سياق كلامك مكان العقل في تفكيرك ومساحة الجهل، كما إن تتحدث كثيراً تخطئ كثيراً، ويقل احترام الناس لك. كثير من الكلام يكون مثيراً للخزي، بخاصة إن كان عاطفياً وخشناً وفوضوياً وغير منظم ومليئاً بالكذب، أو مدحاً للذات المتضخمة، فيصبح مثيراً للغيظ أو مكاناً للرثاء.
سوق الكلام اتسع في العقود الأخيرة بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وهو تطور من المتوقع أن يغير في سلوك البشر وخيارتهم إلى الأسوأ، ويحمل وهماً كبيراً انتشر بين الناس، والقائل إن أصحاب الحسابات الكبيرة على وسائل التواصل الاجتماعي هم مؤثرون أو مصدقون في المجتمع، وإن الناس تنصت إليهم وتتبع نصائحهم!
والحقيقة لها وجه آخر، وهو أن ذاك السوق فيه من الغث أكثر مما فيه من الثمين، وفكرة أن من يحصل على متابعين كثر يملك صدقية عالية، غير صائبة، وهو ليس بالضرورة مؤثراً في الناس، فالمتابعون يفعلون ذلك لأسباب مختلفة وكثيرة، منها معرفة أسرار الآخرين أو التشفي أو حتى كره تلك الشخصية، ولكن ليس من بينها القدوة أو السمع والطاعة أو تصديق ما يكتبه أو يبثه صاحب الموقع أو التغريدة أو العبارة على فايسبوك، والتي يستخدمها البعض للشهرة الزائفة وتمجيد الشخصية!
في الكويت، مرة بعد أخرى، يرشح بعض "المشهورين" من ذوي الحسابات الكثيفة المتابعة على وسائل التواصل أنفسهم للانتخابات العامة، إلا أن حظهم في النجاح في الغالب ضئيل أو أقل من القليل، ذاك مؤشر لمن أراد أن يعرف أن لا علاقة بين الانتشار والتأثير أو الانتشار والقبول العام والصدقية.
الوهم رُوّج له لغرض أو لآخر عن أن المنتشرين مؤثرون، وعقدت الندوات والمؤتمرات ووزعت النياشين على بعض هؤلاء في إطار عملية تضليل كبرى تدّعي أنهم مؤثرون.
ولقد تعمق التضليل إلى درجة أن البعض حوّلها إلى تجارة، فكثيرون يغرون أهل البساطة والسذّج ببيعهم متابعين، وأصبح لبيع المتابعين سوق رائج يقل ثمنه أو يرتفع بحسب الطلب وسذاجة المشتري.
يرى البعض، وقد يكون في ذلك بعض الحقيقة، أن متخذ القرار يستجيب بسرعة لما يكتب على وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أن آخرين يرون أن استجابة متخذ القرار لمثل تلك المطالب أو المناشدات هو ضعف في متخذ القرار وليس قوة، وجهل منه وليس فهماً، كما أنه فهم خاطئ لما يحتاج الناس إليه، فقد يكون المطالب طلب أو أشار إلى مصلحة شخصية، إن حققت فإن فيها إجحافاً بحق المصالح العامة للمجتمع.
لو افترضنا أن الحساب المتضخم في وسائل الاتصال الحديثة يدل إلى شعبية صاحبه لانتهينا إلى القول إن إيلون ماسك، صاحب "تويتر"، يمكن أن يرشح نفسه للكونغرس وينجح وهذا غير واقعي، لكن الإشارة يمكن أن تذهب أيضاً إلى بيل غيتس صاحب مايكروسوفت، أو مارك زوكربرغ صاحب فايسبوك، كل منهما يملك متابعين بالملايين، ولكنهما لا يحوزان أي أصوات وازنة في أي انتخابات، وهما على معرفة بأن تلك الملايين تتابع ولكن لا تثق.
في الأسابيع الأخيرة اندلعت حرب كلامية بين شركات مقدمي خدمات وسائل التواصل ودول الاتحاد الأوروبي، وقد طلبت الأخيرة من تلك الشركات أن تقدم دليلاً إلى أنها تحارب التضليل الإعلامي، وإن لم تلتزم فستمنع من الفضاء الأوروبي في نهاية شهر تموز (يوليو) المقبل، إلى هذه الدرجة وصل الضيق بالاستخدام المدمر لوسائل التواصل حتى في المجتمعات ذات التراث الديموقراطي. كما أن منع برنامج التيك توك دليل آخر إلى إمكان العبث بالعقول.
منذ فترة شهدت نجمة مشهورة تتحدث في مؤتمر للمؤثرين، وقد دعيت بسبب حجم متابعيها، فقالت كلاماً لمن يفهم يستنبط أن كاتبه غير من ألقاه على الناس (النجمة)، فقد أخطأت مراراً في اللغة ونطقت المصطلحات بطريقة غير سوية، ومع ذلك كانت صفوف المتابعين في تلك الندوة معلقة عيونهم إلى تلك النجمة! فقط بسبب وجهها الجميل!!
في الغالب يسعى الناس إلى معرفة أسرار الآخرين وفضائحهم، فالإنسان عموماً "يحب تقصي خفايا الآخرين"، لذلك إن قدمت له بشكل سهل ويسير فلا بأس في المتابعة، كما يحب أن يسمع ويرى ذماً في ما يكره، أو مدحاً في من يحب، ذلك عامل آخر، أو ما يقوله مشهور عن آخر، أو الغريب الشاذ، فظهور مذيعات شبه عاريات في محطة تلفزيونية مثلاً إغراء "كامل الدسم" للمراهقين وأشباههم. الغريب والمبتذل والشخصنة للآخر كلها منصات لجلب المتابعين.
إلا أن الذهاب إلى القول إن ذلك الانتشار يوثر، كما في معظم الكتابات المتسرعة في الموضوع، هو تسرع في الحكم وقفز على الحقائق، ما لدينا هو في الواقع (الشاذ / المقبول عليه) وهي ظاهرة سببها ضعف التكوين المعرفي والفقر الثقافي أكثر مما لها من قوة ذاتية جاذبة.
فمن المعروف أن الإنسان يتأثر أو ينجذب بسبب عوامل مختلفة، على رأسها التأثر بالعالم الجمالي، والشواهد متوافرة أمامنا، فهل شاهد أحد "فشنست قبيحة"! فعالم الجمال في المرأة وأيضاً في الرجل من عوامل الجذب، وعامل آخر هو التحيز، فالإنسان مطبوع بالتحيز لمن يفكر مثله أو يشابه ميوله أو له معرفة شخصية به، أما عامل التأثر بالتفكير الجماعي فهو معروف ودرس كثيراً في علم النفس الاجتماعي، فأن قال لك أكثر من شخص إن نوعاً من الفاكهة مفيد للصحة مثلاً، ستجد نفسك مصدقاً لذلك القول.
إلى جانب ما تقدم، أصبحنا في عصر السرعة المتناهية، لذلك قراءة تغريدة مختصرة تجلب أرقاماً من القراء أكثر بكثير من مقالة طويلة ولكن مشبعة بالمعلومات، إلا أن التغريدة تأثيرها محدود بوقت قراءتها.
مع الانتشار الذي نلاحظه في هذا الفضاء المفتوح، كلما انتشرت تلك الوسائل زاد الجهل من جهة، وكبرت الخرافة واختفى التفكير النقدي، من جهة أخرى.