بقلم - محمد الرميحي
هو مثل إنكليزي شائع، أنّ في كل عائلة خروفاً أسود. طبعاً ليس ذلك ضرورة حتمية، ولكن في الغالب أن الإخوة ليسوا بالضرورة متشابهين في كل شيء في أي أسرة كانت، وأن القرابة ليست لها علاقة بالأخلاق والسلوك والتصرف، بخاصة إذا اختلفت أو تضاربت المصالح وتقوّلت الشهوات. لقد أُعيد استخدام المثل بعدما أصدر الأمير هاري ثاني أبناء الملك تشارلز (هنري تشارلز ألبرت ديفيد، دوق ساسكس) كتابه المثير بعنوان "البديل" والذي يحوي مذكرات صريحة الى حد الإحراج. ولأن العالم اهتم بهذا الكتاب سرعان ما "قُرصن" وأصبح متاحاً للجميع، وقد وصلتني نسخة مُقرصنة منه كما وصلت ربما لعشرات من الناس، ويقول الناشر إنه خلال الأسبوع الأول من نشره أصبح أكثر الكتب مبيعاً في بريطانيا.
البعض متعاطف مع الأمير والبعض الآخر، بخاصة في الفضاء السياسي والإعلامي البريطاني، غير متعاطف بل معادٍ للكتاب والأمير وزوجته الممثلة السابقة المليحة ميغان دوقة ساسكس!
الكتاب مهم للناس لأنه صادر عن عضو في عائلة حاكمة، ويعتقد الناس أن العائلات الحاكمة مختلفة عن العائلات الأخرى حيث أنها دائماً "منضبطة"، وذلك افتراض خاطئ كلياً، فالعديد من المؤامرات والاغتيالات والخدع جاءت على مر التاريخ من داخل "الأسر الحاكمة" ضد بعضها حتى أصبح مفهوم "مؤامرة القصر" مفهوماً اعتيادياً يُرتكب في كل الأزمنة والأمكنة، بل أن "تجسس" بعضهم على بعض من المهن الرائجة والمدّرة على فئة من الناس تمتهن هذا العمل، أي تعمل مع شخص في العائلة، وتقدم تقاريرها لشخص منافس في العائلة نفسها.
اشتهرت العائلة البريطانية المالكة بأنها "ذات شفاه مغلقة" Stef upper lip وكان من الطبيعي أن لا يعلق أحد في العائلة أو حتى المتحدثون باسمها بإصدار أي تعليق على كل ما جاء في كتاب الأمير الغاضب، إلا أنها كعائلة أصبحت محط مسلسلات تلفزيونية رائجة تحمل أدق التفاصيل.
مع قراءة الكتاب وتفاصيله تجد نفسك تتذكر القول المعروف في علم النفس: "الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون"، أي أن هناك سلوكاً وتصرفات يقوم بها الآباء يدفع ثمنها معنوياً أو مادياً أو اجتماعياً أو نفسياً، الأبناء. وهذا ما حصل للطفل هاري عندما فقد والدته المحبة السيدة ديانا التي سماها رئيس الوزراء الأسبق توني بلير عشية مقتلها في آب (أغسطس) عام 1997 "أميرة الشعب". لقد كان التعاطف معها جارفاً، وامتنع قصر الحكم وقتها من الاعتراف أن عضواً من العائلة قد قتل، لدرجة عدم خفض العلم على سارية القصر، إلا بعد حين، عندما تعالت أصوات في الإعلام بخطأ ذلك التصرف.
هاري الأمير الصغير يقول وقتها إنه "لم يجد دمعة واحدة تنزل من عينيه لفقدان والدته"، ومن الواضح أن ذلك الألم الدفين في قلب الطفل قد بقي لسنوات ربما يلوم والده وربما جدته الملكة على "إهمال من نوع ما لوالدته" والتي بدورها أرادت أن تنتقم من العائلة بتصرفات اعتبرتها العائلة "غير لائقة". كما أن الأمير الصغير قال إنه "لم يكن راضياً باقتران والده بعد وفاة والدته بامرأة مطلقة". كل هذا الخزين من التجارب السلبية تفجر لدى هاري وهو على مشارف النضوج، وتفاقم أكثر باقترانه بإمرأة ذات الأصول المختلطة، فهو يعطيك الانطباع أنه "ثائر على التقاليد الموروثة" التي تجعل بشراً أعلى من بشر!
تعقيدات بروتوكول العائلة المالكة في بريطانيا تسبّبت في وقت الانتقال الكبير الثقافي والاجتماعي والسياسي الضخم في بريطانيا بعدد من النتائج السلبية، ووضعت الكثير من العقبات أمام تطور التعاطي العام للعائلة المالكة مع مؤسسات الإدارة والحكم في بريطانيا، فالثقافة العامة تقريباً تخلصت من "النعرة" المتعالية والاصطفاء العرقي، إلا أن تقاليد الأسرة الحاكمة لا تزال متشبثة بمظاهره ما يدفع شخصاً مثل هاري الى "العصيان"!
بذهاب الملكة الأم اليزابيث الثانية في أيلول (سبتمبر) 2022 تستحق تلك التقاليد والموروثات أن يعاد النظر في الأغلب الأعم منها من أجل مسايرة العصر، إلا أن ذلك لم يحدث حتى الآن.
ذلك الاستعصاء ينطبق على الحكم الأسري الباقي في العالم وهي أقلية اليوم. فرغم أن التاج البريطاني معروف مسبقاً بتسلسل وراثة الحكم فيه، إلا أن ضبابية تسلسل الحكم في أسر حاكمة أخرى تثير الكثير من الاضطراب والتنافس غير الحميد في مجتمعاتها، كما أن الفصل بين إدارة الحكم وبين الأسرة الحاكمة قد تحقق في بريطانيا بعد صراع طويل... هذا الخلط لا يزال قائماً في بعض الأسر الحاكمة وهو "صاعق تفجير" للاستقرار المرجو للمجتمع، وأيضاً غير مطروح للنقاش على أساس أنه من "المحرمات" مع المشاهد في حروب حاضرة. إن بعض "الخراف السوداء" تترك القطيع بين فينة وأخرى ملتحقة إن صح التعبير بقطيع آخر، وفي أجواء الاضطراب العالمي والتشاحن الدولي، لا بد من أن هناك قوىً ترغب في استقطاب بعض تلك الخراف السوداء من أجل تحقيق مصالحها في هذا البلد أو ذاك، وقد لا تكون تلك الخراف السوداء لها علاقة مباشرة بأسر الحكم فربما أيضاً جماعات تستثمر ذلك الاضطراب لمصالحها.
الأمير هاري ضحية نظام قديم يعاند التطور، وليس "شيطاناً" - كما يرغب البعض في توصيفه - يسعى الى تقويض نظام العائلة من داخلها، هو ظاهرة إنسانية تكررت ويمكن أن تتكرر بصور أخرى في مجتمعات الحكم الأسري.