قبل أن يصل اللبنانيون إلى قناعة بأن مشكلة بلدهم نابعة أساساً منهم وبهم أيضاً حلها، لن يستطيع أحد أن يقدم لهم الترياق الذي يخرج بلدهم من حجرة العناية المركزة. لا يستطيع لبنان، ولا حتى إيران بكل قدرتها، أن يدخلا في حرب مع إسرائيل، ذلك وهم توجب التخلص منه، وما الاشتباكات الأخيرة إلا ذراً للرماد في العيون.
قال الأمير فيصل بن فرحان وزير الخارجية السعودي، بعدما صار الحديث عن الوفاق السعودي - الإيراني علنياً، أن حل مشكلات لبنان هو بيد اللبنانيين وليس بيد غيرهم، ويعني ذلك أن تعطيل الدولة اللبنانية هو نتاج محاولة (الاستحواذ من أطراف لبنانية على لبنان كله). حتى الساعة لم يستطع أحد في الصف "المقاوم" أن يعترف بتلك الحقيقة، ولا أن يقدم نقداً ذاتياً بعد كل هذا الخراب الذي ألمّ بلبنان، حتى بعد مرور تلك السنوات العجاف من التدهور، جل ما يقدمه ذلك الصف للجمهور هو تلك الشعارات الصارخة ضد أميركا والصهيونية، ولكن في الوقت نفسه لا بأس من توسط الأولى لدى الثانية لترسيم الحدود البحرية رجاء خروج نفط سوف تتكالب عليه إن ظهر مجاميع "أكلة الجبنة"!
لماذا "حزب الله" ضرورة إسرائيلية؟ لنفترض العكس، لو كان لبنان بطوائفه وملله وجماعاته قد بنى دولة مدنية حديثة مستقلة مسالمة ومتطورة لانتعش هذا البلد اقتصادياً وعلمياً وتجارياً وثقافياً وطبياً واجتماعياً، وأصبح النقيض لبلدان التهميش المجاورة، وتجربة يُضرب بها المثال في التعايش، وتشكل نقيضاً لمجتمع إسرائيلي منقسم ومحترب بين مكوّناته وجيرانه المباشرين (الفلسطينيين). ذلك النموذج الحضاري لا يراد له أن يبنى في لبنان لمصالح مباشرة لإسرائيل.
تلك الحقيقة التي يحاول البعض إخفاءها تحت عباءة المزايدة، من جهة، والتخوين من جهة أخرى، ولكن الشواهد بين أيدينا تؤكدها يوماً بعد آخر.
آخر الاشتباكات التي حصلت الأسبوع الماضي تنصل منها "حزب الله"، ووافق على ذلك التنصل الجانب الإسرائيلي، بل قيل علناً إن الطرفين لا يريدان حرباً، وهي الحقيقة الثابتة منذ سنوات، وهي ثابته لأن موازين القوى غير متكافئة، وأن أي حرب ستكلف الحزب ربما بقاءه، أو على الأقل تماسكه.
ما يفعله الحزب في لبنان أغلى أماني إسرائيل، فهو يعزل لبنان عن ساحته الطبيعية، وهي الحاضنة العربية، كما يعزل لبنان عن العالم، في سبيل إثراء بعض المناصرين من خلال ولوج بعضهم في تجارة المحرمات التي تدر ربحاً على بعضهم، بصرف النظر عما تسببه من خسارة فادحة للبنان وسمعته الدولية وقرارات عزله.
بقاء لبنان مقسماً وشاغرة سلطاته العليا، سواء أكانت رئاسة الجمهورية أو حتى مجلس وزراء مفوضاً، هو غاية المنى للسياسيين الإسرائيليين، فهو بتلك الصفة مقسم ومتشظٍ وعاجز ويخضع جل أبنائه للفقر والعوز، وبالتالي ينتظم بجداره في صف الدول الفاشلة ويعطي ميزة نسبية للمجتمع الإسرائيلي الذي رغم اختلاف مكوناته إلا أن مؤسساته تعمل.
الخاسر في النهاية هو المواطن اللبناني، بصرف النظر عن طائفته أو قناعته السياسية، فانهيار النظام المصرفي أثر على الجميع، فلم تكن الودائع ذات صفة طائفية، بل كانت لبنانية، كما أن انهيار الخدمات الأساسية لا علاقة له بالطوائف أكثر من أن له علاقة بالوطن.
الادعاء أن هناك تدخلاً خارجياً يعطل المؤسسات اللبنانية آن له أن يناقش بجد وبعقلانية، حتى لو افترضنا وجوده، فله أدوات وهي أدوات لبنانية صرفة من دونها لا يستطيع أحد التدخل.
التفاعلات السياسية في المنطقة تسير باتجاه تنقية الساحة من المنقصات، والسير حثيثاً نحو التنمية والاستقرار، في عالم يمور بالصراعات الكونية الكبرى التي لا تلتفت إلى آلام مواطني الدول الصغيرة التي تكاد تكون هامشية.
من سيعلق الجرس في الموضوع اللبناني ليس غير اللبنانيين، أما رفع اليد عن اجتراح الحلول على أساس انتظار ما سيقوله الخارج، فذلك وهم على اللبنانيين الإفاقة منه، وكلما تمت الإفاقة مبكراً، حافظ لبنان على بعض من دوره وألقه القديمين.
الاستحواذ فيروس خبيث، ما إن يحل بمجتمع حتى تخور قواه الاجتماعية ويصبح قابلاً للتفكك و الانهيار، ونشاهد في لبنان حروب الاستحواذ على أشدها، ليس بين الطوائف فقط، ولكن حتى في داخل الطائفة الواحدة، والتكالب على الزعامات وإطعام الجمهور شعارات ليست لها علاقة بالواقع.
العالم يتجه إلى مكان ولبنان يبقى، على أقل تقدير، في مكانه القديم، تناقش مجموعاته السياسية جنس الملائكة، ويعرض ذلك النقاش في مسرحية هازلة اسمها محاولات انتخاب رئيس. لقد أصبح الطبيعي والعادي في أي دولة أو مجتمع مستعصياً في لبنان، ومع ذلك ما زال البعض يلوم الخارج ولا يستطيع أن يفكر في لوم نفسه!