في تراثنا الشعبي شخصية اسمها جحا، ولكن لا تحاول أن تعرف من هو جحا، فحتى «غوغل» (أبو العلوم) لن يسعفك بالكثير من المعلومات، بل سوف يقدم لك معلومات قد تكون متضاربة. أكثر الروايات أنه شخصية تمت صناعتها من عدد من الحضارات القديمة التي وصلت إلى العرب، وهي تمثل فلسفة البسطاء من الناس، وكانت برواياته ومقالبه تتسلى العامة والخاصة، كما يتسلى اليوم جمع غفير من الناس بوسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، بسبب ما ينتجه البسطاء، قلت البسطاء، حتى لا أذهب إلى التعبير الدارج وهو «البلهاء»!
إحدى قصص جحا أنه وجد صبية متجمعين في أحد الأحياء، فقال لهم سأقول لكم سراً، لا تفشوه؛ في أول الحي بيت فلان، يقيمون وليمة كبيرة، وهي مفتوحة للجميع، فتراكض الصبيان إلى المكان الذي وصفه لهم، بقي وحيداً وقال لنفسه: ربما ما قلته هو الصحيح... فركض خلف الصبيان... وسائل التواصل الاجتماعي اليوم هي «ركض وراء الصبيان»!
رغم أن القصة قديمة، فإن لها ما يشبهها اليوم في هذا العصر الرقمي المتسارع، فكثير من «المعلومات» التي تتدفق، وخاصة في وسائل التواصل الاجتماعي، هي «معلومات في أقلها غير دقيقة» وفي أكثرها «مزيفة»، ومع ذلك يعشقها كثيرون ويجري تصديقها من أغلبية من الناس.
معلومات دينية وهي الأخطر، ومعلومات سياسية، واقتصادية واجتماعية وثقافية، كلها تشكّل كماً تراكمياً من الأخبار المزيفة.
تشير الدراسات إلى أن المعلومات الخاطئة التي يتم نشرها، بغض النظر عن نية الخداع أو عدم الخداع من المرسل، التي يقوم بها البعض عمداً أو تقليداً، قد وجدت الدراسات أن انتشارها أسرع وعلى نطاق واسع من المعلومات الأكثر دقة، وغالباً ما تتجاوز الجهود المبذولة لتصحيحها، فقد لا يقرأ المتلقي تلك التصحيحات. وتتفاقم هذه الظاهرة بسبب الخوارزميات التي تعطي الأولوية للمشاركة، وكثيراً ما تروج للمحتوى المثير أو المشحون عاطفياً، على الدقة، فالإنسان بطبعه يميل إلى الغريب والمستنكر، تشفياً في الآخر!
هناك شيء من الخداع في تصميم منصات الوسائط الاجتماعية من أجل تحديد أولويات المحتوى الذي يولد مستويات عالية من المشاركة، مثل الإعجابات، والمشاركات والتعليقات. يمكن أن يؤدي ذلك إلى الانتشار السريع للمحتوى المرتبط بخوارزميات المنصات المثيرة، الذي لا يتم التحقق منه دائماً للتأكد من دقته. يمكن للمعلومات الخاطئة أن تكتسب زخماً بسرعة، وتصل إلى ملايين المستخدمين قبل أن يتم فضحها. ويمثل هذا الأمر إشكالية بشكل خاص في أوقات الأزمات، مثل الجائحة أو الكوارث الطبيعية، حيث تكون المعلومات الدقيقة في الوقت المناسب أمراً بالغ الأهمية.
تتمثل إحدى الطرق الرئيسية التي تضلل بها وسائل التواصل الاجتماعي الجمهور في إنشاء غرف الصدى أو غرف الدردشة. هذه هي البيئات التي يتعرض فيها المستخدمون بشكل أساسي للمعلومات والآراء التي تعزز معتقداتهم الحالية. وتقوم الخوارزميات بتخصيص المحتوى وفقاً للتفضيلات الفردية، مما يؤدي إلى موجز أخبار مخصص للمتلقي، يراكم الأفكار نفسها ويستبعد وجهات النظر المتنوعة أو المضادة. هذا يعزز التحيز الأعمى، والميل إلى تفضيل المعلومات التي تؤكد تصورات المرء المسبقة، مع تجاهل الأدلة المتضاربة التي قد تعرض.
بالإضافة إلى الانتشار غير المقصود للمعلومات المضللة، يمكن أيضاً التلاعب بوسائل التواصل الاجتماعي من قبل الجهات المصدرة للمعلومات، أحزاب أو مؤسسات، لخداع الجمهور عمداً. يتم تصميم حملات الأخبار المزيفة والدعاية والتضليل بشكل استراتيجي للتأثير على الرأي العام، أو زرع الفتنة، أو تحقيق أهداف سياسية أو مالية أو ثقافية.
غالباً ما تستخدم الكيانات السياسية وجماعات المصالح وسائل التواصل الاجتماعي لنشر الدعاية والتأثير على سلوك الناخبين أو المستهلكين أو الجمهور العام. يمكن أن يشمل ذلك إنشاء حسابات مزيفة، وروبوتات وصور تعمل على تضخيم المحتوى الحزبي أو السياسي، ونشر الروايات الكاذبة. خلال الانتخابات، أو الصراعات، يمكن أن يكون تأثير مثل هذه التكتيكات عميقاً لدى الجمهور، مما يؤثر على الإدراك العام، ويحتمل أن يغير نتائج العمليات الديمقراطية أو حملات التسويق أو حتى الانحيازات الاجتماعية والثقافية.
أدت التطورات التكنولوجية إلى ظهور التزييف العميق، ومقاطع الفيديو بالواقع المعزز والتسجيلات الصوتية التي يمكن أن تصور الأفراد يقولون أو يفعلون أشياء لم يفعلوها أبداً، وحتى بلغة غير لغتهم الأم. يمكن استخدامها لتشويه سمعة الشخصيات العامة، أو التلاعب بالرأي العام، أو خلق الارتباك في المجتمع. وتشكل القدرة على إنتاج محتوى كاذب مقنع تهديداً كبيراً لمصداقية المعلومات على وسائل التواصل الاجتماعي.
ما تم معرفته منذ أيام، أن عمالقة التقنية في الولايات المتحدة قد اتخذوا قراراً برفع الحماية المسبقة على ما ينشر، على عكس ما كان سائداً حتى أسابيع قليلة ماضية، فلم تعد تلك المنصات معنية بمنع أو حتى تصحيح ما ينشر عليها من معلومات، والظاهر أن هذا التوجه جاء بمباركة الإدارة الجديدة في الولايات المتحدة، مما يزيد من مخاطر التزييف والتضليل، أما ثورة الذكاء الاصطناعي (ولا يكاد يفارق آذاننا ذلك المصطلح)، فتقدم للبشرية ما لم تكن تتصور أنه ممكن، إنها ثورة مذهلة، وقد دخل عليها الصينيون مؤخراً بثورة داخل الثورة، وقد لا نكون بعيدين عن استدعاء أصوات الأجداد!
آخر الكلام: قد لا تحتاج إلى رفيق أو مدبرة منزل بعد سنوات قليلة، يكفي أن تشتري روبوتاً صينياً قليل التكاليف!