بقلم : د.محمد الرميحى
كتاب السيدة هيلاري كلينتون "الخيارات الصعبة" المكوّن من أكثر 640 صفحة، والمفروض أنه مخصص لتجربتها وزيرة خارجية للولايات المتحدة بين 2009 – 2013، لم يقتصر على تجربتها في الخارجية، بل أيضاً على بعض عملها كسيدة أولى في فترة زوجها بيل كلينتون في الرئاسة، وتاريخ عائلتها الصغيرة. الكتاب فيه الكثير من التفاصيل التي قد تهم القارئ الأميركي، ولكنها ليست ذات بال للآخرين، إلا أن فيها أفكاراً وتصورات تتيح للقارئ فهماً أفضل لقواعد السياسة الخارجية الأميركية وآليات التوافق والصراع في المجتمع السياسي الأميركي.
قد يحمل القارئ العربي وجهة نظر تجاه السياسة الأميركية في سلبياتها، وربما في إيجابياتها، بسبب التراكمات التاريخية، ولكن الحقيقة قد تكون بعيدة من التصورات العامة.
الولايات المتحدة، رغم أنها بلد كبير جغرافياً وغنية اقتصادياً، إلا أنها بجانب ذلك لها قواعد في الحكم الفدرالي، ويكاد المتابع أن يلمح شبهة احتكار من عائلات بعينها أو طبقة بعينها تتبادل السلطة، مع مكون ثابت يمكن أن يطلق عليه "الحكومة أو السلطة العميقة" المكونة من جيش من الخبراء والأكاديميين والصحافيين، بصرف النظر عن من هو الحزب الحاكم في السلطة في وقت ما، أكان ديموقراطياً أم جمهورياً، وتلك تدافع عن مصالح لا عن مبادئ!
ذلك في الصورة العامة، أما في التفصيلية، فإن قارئ الكتاب يمكن أن يلمح عدداً من المظاهر في ممارسة السلطة تستحق أن يلتفت إليها:
أولاً: تبادلية العداء والتوافق، ففي التحضير للانتخابات التمهيدية لاختيار مرشح الرئاسة عن الحزب الديموقراطي عامي 2006-2008، تنافس في نهاية الأمر شخصان: السيدة هيلاري كلينتون والسيد باراك أوباما، وفي المعركة السياسية الضارية بين الاثنين لأشهر للفوز بترشيح الحزب قال كل منهما في الآخر أقوالاً شائنة إلى درجة أن هيلاري ادعت أنه لو انتُخب باراك لتعرض للقتل، إشارة إلى لونه وخلفيته الاجتماعية! كما لم تقصر حملة الأخير في تدبيج التهم للسيدة المرشحة حتى الإشارة إلى حياتها الخاصة، لقد كانت حملة سياسية ساخنة.
وما إن انتهت بفوز ترشيح أوباما ومن ثم حصوله على كرسي الرئاسة، حتى اتصل بها لعرض أن تكون وزيرة خارجية! تفاصيل العرض والقبول تطرقت إليها الكاتبة لكن ليس ذلك هو المهم، المهم أنها قبلت أن تكون عضواً في الإدارة الجديدة، وكان لها مكان الصدارة في تلك الإدارة، إلى درجة أنها أشارت إلى زيارتها البيت الأبيض أثناء توليها المهمة في أربع سنوات أكثر من سبعمئة مرة! دليل إلى قربها من مركز اتخاذ القرار. تلك التبادلية التي تجعل من مرشح خصم أن يكون عضداً مأموناً، وهي ليست المرة الأولى في تاريخ السياسة الأميركية، إشارة إلى إمكان التوافق، وإلى أن الاختلاف ليس شخصياً (كما في ثقافات سياسية أخرى) أو (كسر عظم) و(انتشاء للمنتصر) وغضب على (المهزوم)!
ثانياً العمل المؤسسي: توصيف كيف بدأت السيدة هيلاري أعمالها يستحق الإشارة، قبل تأكيد تعيينها من اللجنة المختصة في مجلس الشيوخ (وذلك متبع دائماً) اجتمعت بكل وزراء الخارجية السابقين على قيد الحياة، وحاولت أن تفهم الصعوبات التي واجهوها وما هي العناصر الحاكمة في الثوابت الخارجية الأميركية، وجاءت النصائح متنوعة، منها على سبيل المثال "لا تخططي لإجازة في شهري تموز/ يوليو وآب/ أغسطس، لأنهما شهرا الأزمات الدولية"! ومنها نصيحة كسينجر "حاولي فهم ثقافة الآخرين قبل الخوض في الملفات الصعبة"! وغير ها الكثير. الفكرة هنا هي الاستماع إلى الخبرات السابقة. كما استعانت وهي تحضر لجلسة التثبيت بأساتذة معروفين في العلاقات الدولية وصحافيين كبار لهم خبرتهم، فلما جاء وقت الموافقة على التنصيب كانت مستعدة بملفات كاملة عن معظم القضايا الدولية. الاستعانة بالخبرات المتوافرة وتنوع الخبرات في مقابل (في بعض الثقافات) أن الوزير هو "أبو العريف" الذي يفهم وأن الآخرين لا يفقهون!
ثالثاً الاستعانة بالخبرات: في المناطق الجغرافية المهمة لمصالح الولايات المتحدة يجب البحث لتعيين سفراء عن الخبرة والمعرفة، وليس عن الولاء الحزبي أو السياسي، الصين كانت أولوية قصوى في سياسة الولايات المتحدة في مطلع القرن الحالي لما تمثله من تحد اقتصادي وسياسي، فعين سفيراً في الصين مواطن أميركي متمكن من أب مهاجر صيني، يعرف ما هي سياسة بلاده كما يعرف ثقافة البلد الذي يمثل بلاده فيه ولغته، وهكذا تمت الاستعانة بثروة البلد البشرية من أصول إيطالية وأيرلندية وهندية وعربية، أو ما تسميه "تلون خلفية المسؤولين" على قاعدة الكفاءة والتميز للاستعانة بهم في مناطق التماس السياسي والاقتصادي ونقاط الأزمات لخدمة المصالح الأميركية والدفاع عن المبادئ التي تؤمن بها، من حقوق الإنسان إلى المشاركة الشعبية! لذلك استطاعت تلك الشخصيات أن تساعد في الوقت المناسب في حل المشكلات الناشئة من تضارب المصالح أو تبريدها.
رابعاً: لا تطالعك ملفات العرب في كتاب هيلاري إلا في الفصل الرابع عشر (فلسطين) والخامس عشر (الربيع العربي). ترى الكاتبة أن الركود الاقتصادي والسياسي والفساد هي آفات أضعفت قوة الدولة العربية الحديثة في الشرق الأوسط، كمثال تقول "مبارك حكم مصر مثل فرعون"! هنا ما يلفت بشدة، فالولايات المتحدة رغم النصائح الكثيرة التي قدمتها لتطوير الحكم في الشرق الأوسط وتشجيع رشادة الحكومات، إلا أنها لم تجد آذاناً صاغية. وتشير المؤلفة إلى خطابها في الدوحة في كانون الثاني (يناير) 2011 في مؤتمر التنمية، والذي أشارت فيه بوضوح إلى وجوب التحرك إلى الإصلاح السياسي. إلا أن السياسة الأميركية في هذه المنطقة كانت تواجه معضلة بين الإصلاح السياسي ومحاربة الإرهاب، وكثيراً ما اقتنعت بأن الأخيرة مفضلة على الأول!!
ولكنها تقول (في الغالب أنها محقة) إنه "خلافاً للاعتقاد السائد في منطقة الشرق الأوسط، لم تكن الولايات المتحدة يوماً محرك دُمى قادراً على تحقيق النتائج التي تريدها". ذلك يدل إلى أنها تستجيب للحوادث أكثر من كونها صانعة حوادث كما يظن كثيرون.
وترى الكاتبة أن "الانتقال من الدكتاتورية إلى الديموقراطية محفوف بالمخاطر، وتنجم عنه بسهولة أخطاء، كما حدث في إيران حيث قبض المتطرفون على السلطة".
ما عُرض سابقاً هو ملامح سريعة من دروس "الخيارات الصعبة" وفيه من التفاصيل ما يجب ألا يستغني عنه متخذ القرار في السياسة، فهل من يقرأ ويفصل بعين الناقد بين المعقول والتمنيات أو الإنكار؟