بقلم حسين شبكشي
منذ أن أطلق المشروع الصهيوني شعاره بأن فلسطين هي «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» والفلسطينيون في معركة لم تتوقف ضد المؤرخين الصهاينة بفروعهم المختلفة سواء أكانوا من اليهود أو التلموديين أو المسيحيين الإنجيليين لإثبات حق الوجود الفلسطيني التاريخي على أرضهم بالأدلة والبراهين الموثقة والمثبتة. ويدرك الفلسطينيون أن هذه المعركة لا تقل أهمية ولا هي بالأقل ضراوة عن المعارك السياسية والدبلوماسية والثقافية والاقتصادية، حتى إن البعض يعتقد أنها أشرس وأخطر لأنها تدور خلف الكواليس ونتائجها في غاية الأهمية.
وقدم المشروع الصهيوني طروحاته المليئة بادعاءات تعتمد على سردية تاريخية مليئة بالثقوب والأسئلة، سردية غير موضوعية وشديدة التحيز لوجهة النظر الدينية لا إلى المعيار التاريخي الأكاديمي المستقل. وهذا كان نقطة الضعف الأهم وقتها ولا تزال في جميع ما تم طرحه في المشروع الصهيوني.
وقدم المؤرخون الفلسطينيون سردية موحدة متخذين من الواقع الاجتماعي لوجودهم في أرضهم بشكل مستمر ومتواصل وغير منقطع لقرون طويلة جداً من الزمن.
وبرزت أسماء مؤثرة ومهمة في هذا المجال، الذي بات يُعرف بالتاريخ الفلسطيني، مثل مصطفى مراد الدباغ، وناصر الدين النشاشيبي، وهشام شرابي، ووديع إدوارد سعيد، ووليد خالدي، ورشيد خالدي والكثير غيرهم. منهم من تخصص في تاريخ العمارة، ومنهم من تخصص في تاريخ الزراعة، وآخرون تخصصوا في المأكولات والمطبخ والعادات والتقاليد والأزياء والمهن والتجارة والتعليم والطب والعملات والبريد والصحافة والصرافة والرياضة والفنون والأدب وغيرها، بحيث يتم تغطية جميع أوجه الوجود الفلسطيني التاريخي وتأصيله بشكل قطعي الدلالة.
وقد أثّرت تلك السردية الفلسطينية الموثقة على الداخل الأكاديمي الإسرائيلي نفسه، وخرجت أصوات قوية من داخل المجال الجامعي تنادي بإعادة قراءة للتأريخ الصهيوني بصورة نقدية جادة وإخراج كل ما هو غير مثبت علمياً ويناقض الأمر الواقع العلمي، منه... أصوات في غاية الأهمية مثل بيني موريس، وآفي شلايم، وإيلان بابيه، وهم مؤرخون أكاديميون إسرائيليون من الوزن الثقيل.
ومؤخراً ظهر على الساحة مؤرخ فلسطيني من طراز مختلف، أكاديمي بتفوق وموسوعي في طرحه بامتياز وهو الدكتور محمد هاشم غوشة، وهو الذي تخصص في تاريخ مدينة القدس وكتب عنها ثلاثة كتب في غاية الأهمية.
ويسعى الآن الدكتور غوشة إلى إتمام «المشروع الأهم وحلم عمره»، كما يصفه ويحب أن يسميه.
وهذا المشروع الكبير الواعد هو عبارة عن موسوعة فلسطينية شاملة عن كل ما يتعلق بالتاريخ والهوية والوجود الفلسطيني، مكونة من عشرين جزءاً من القطع الكبير ومقدر لها أن يتم الانتهاء من إعدادها، وأن تصبح جاهزة للتداول بنهاية عام 2024.
وهذا المشروع الطموح يتضمن جميع الخرائط التفصيلية عن تاريخ فلسطين ومدنها وقراها من المنظور الأكاديمي العالمي بصورة عامة والغربي منه تحديداً. ويتجاوز عدد الخرائط التي تمت تغطيتها والحصول عليها الأربعين ألفاً، وهو عدد مذهل ومبهر بلا شك.
ويعد مشروع الدكتور محمد غوشة وموسوعته الفلسطينية الشاملة أكثر المشاريع الفلسطينية التاريخية التوثيقية طموحاً وهي بذلك ترفع سقف التوقعات والطموحات، ولكنها تقدم مادة جديدة وغاية في الجدية في جولة أخرى من جولات الصراع الوجودي في مواجهة المشروع الصهيوني المستمر.
السردية التاريخية لها أشكال مختلفة، وليس المنتج الأكاديمي هو الوحيد من نوعه في هذا المجال، ولكن السردية الخاصة بالمشروع الصهيوني يتم الترويج له من خلال الأفلام والمسلسلات والمسرحيات والأغاني والروايات وألعاب الأطفال والملاهي، وتعتمد على حصار المتلقي بمحتوى ثابت ومتكرر مما يشبه غسيل دماغ غير مباشر.
معركة إثبات الوجود وتاريخ الفلسطيني على أرض فلسطين مستمرة وتتعدد جولاتها، ويبقى الحسم لصاحب النفس الطويل والذي يواظب على المنهج العلمي لإثبات حقه، فالأدلة الدامغة تنحاز لأصحابها في النهاية.