بقلم - حسين شبكشي
أمس، حطت طائرتان في الشرق الأوسط من المتوقع أن يكون لهما وقع تاريخي لافت؛ الأولى وصول طائرة تجارية إسرائيلية إلى مطار العاصمة الإماراتية أبوظبي، وعلى متنها وفدان أميركي وإسرائيلي رفيعا المستوى، الغرض منها تدشين مرحلة العلاقات الطبيعية بين الإمارات وإسرائيل بعد الاتفاق التاريخي بينهما منذ أيام قليلة مضت.
ومن المتوقع أن يكون لهذا الحدث تبعياته وآثاره على المنطقة عموماً، وعلى قضية الفلسطينيين وحقوقهم تحديداً، فالحدث حرك مياهاً راكدة، على أقل تقدير.
الحدث الثاني هو وصول طائرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بيروت، في ثاني زيارة له خلال أقل من شهر، بعد زيارته الأولى التي جاءت عقب انفجار مرفأ بيروت المهول الذي لا يزال غامضاً خفي الأسباب. قبل وصول الرئيس الفرنسي بسويعات قليلة، اتفق الفرقاء اللبنانيون كافة على تسمية رئيس الوزراء، وخرج رئيس الجمهورية اللبناني يلوح بالاستقالة الفورية، في حال «ثبوت» فساد أي من أفراد أسرته، كما لم يفته أن يدعو ويطالب بتحويل لبنان إلى «دولة مدنية»، وهو المدعوم من حزب ديني طائفي متطرف بامتياز.
مرحباً بكم في فصل جديد من السياسة اللبنانية الفريدة. ولكن ما يهم المنطقة اليوم من زيارة الرئيس الفرنسي لها هو استمرار «احتضانه» و«تعاطفه» مع المشروع الإيراني المتطرف، وهو الذي في كل تصريحاته لم يتطرق إليه أبداً. قد يكون لهذا الأمر بعد تاريخي عاطفي بسبب العلاقة القديمة بين إمبراطور فرنسا نابليون بونابرت وملك إيران فتح علي شاه (الذي أرسل مندوبه ميرزا محمد رضا قزويني للقاء الإمبراطور الفرنسي بباريس) التي بدأت عام 1807 لتأسيس حلف استراتيجي تستخدمه فرنسا ضد النفوذ والطموح التوسعي لروسيا. ومنذ هذه اللحظة، تولدت لدى الفرنسيين قناعة بأنهم أحد مفاتيح الحل في الشرق. إلا أن علي خامنئي ليس فتح علي شاه، وحسن نصر الله ليس ميرزا محمد رضا قزويني. الإشارات التي أرسلها ماكرون بقبوله الالتقاء بمحمد رعد، ممثل تنظيم «حزب الله» الإرهابي، خلال زيارته الأولى، وترحيب زعيم التنظيم حسن نصر الله بجهد الرئيس الفرنسي ماكرون، وذلك بعدم الاعتراض عليه في خطابه وتصريحاته، تؤكد أن هناك «صفقة» قد عقدت تحمي الحزب الإرهابي من الملاحقة (مطلوب أحد أفراده من المحكمة الدولية بعد إدانته باغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري). ربما يكون بذلك قد دق مسمار اليأس الأخير في مسيرة أمل الإصلاح والتغيير المنشود لأن المعنى العملي لذلك الأمر هو سيطرة السلاح غير الرسمي، على حساب المؤسسة العسكرية الوحيدة، ورفع صوت الطائفية على حساب المدنية، وإلغاء فكرة التعايش الدستوري لصالح واقع القوة والتشبيح. هذا الواقع الجديد لا يمس لبنان فقط، ولكنه واقع يمس الأمن العربي بأكمله، نظراً لما تمثله إيران ومرتزقتها من إرهابيي «حزب الله» من خطر استراتيجي على دول المنطقة. وهذا من شأنه أن يوسع هوة العلاقات العربية - اللبنانية، ويزيد من عزلة لبنان مع دول الخليج العربي.
هناك رمزية جمالية في منتهى الرقي سيقوم بها الرئيس الفرنسي في مستهل زيارته لبيروت، بالذهاب فوراً لمنزل السيدة فيروز، ولقائها لمنحها أعظم وسام في الجمهورية الفرنسية، وهو تقليد فرنسي نبيل لدولة تحترم الفنون والآداب والثقافة، وتحرص على تكريم كبار رموزها من حول العالم، وهي خطوة ستحسب للرئيس الفرنسي ولا شك، وتسجل في التاريخ. كما أن لفرنسا سجلاً حقوقياً ومدنياً عظيماً تفتخر به وتستشهد برموزه، ولكن يبدو أنها تضيع اليوم فرصة تاريخية لتأسيس وتأصيل دولة مدنية عصرية، بلا رموز طائفية، بعد مائة عام من دعمها لاستقلال لبنان بشكل واضح استثنائي، وذلك بوضع يدها في يد رمز الطائفية والتشدد والرجعية.
كان لدى فرنسا فرصة عظيمة لإعادة صياغة لبنان جديد يبث أثره إلى جواره والمنطقة. وقد يكون من المفيد أن يتم تذكير الرئيس الفرنسي المحتفي بالسيدة فيروز أن أنصار تنظيم «حزب الله» في الجامعات اللبنانية يمنعون الاستماع لأغانيها.
هذا هو لبنان الجديد الذي قرر ماكرون حمايته والتعاطف معه. دوماج!