بقلم - حسين شبكشي
الكتاب جزء مهم وحيوي للغاية في صناعة المعرفة، هكذا ينظر إليه في الغرب تحديداً. ولقد أسهمت غزارة الإبداع والإنتاج الفكري للبشر في إخراج العشرات من التصنيفات المختلفة المتعلقة بالكتاب، منها ما هو متعلق بالروايات أو بالسياسة والاقتصاد أو بالخيال العلمي، وصولاً إلى السير الذاتية. وكتب السير الذاتية تحديداً تحظى بقبول عريض لا يتوقف بسبب الفضول الفطري لدى الإنسان لاستراق السمع والتجسس على خصائص حياة المشاهير من ساسة ورجال أعمال وفنانين ورياضيين.
وفن كتابة السير الذاتية لا يتقنه إلا القلة القليلة المتمكنة، وفي السنوات الأخيرة برز بقوة اسم الصحافي الأميركي المخضرم والتر آيزكسون، كأحد أهم الكتاب المتخصصين في هذا المجال الثري والممتع. فهو الصحافي الخبير الذي تبوأ أعلى المناصب في مؤسسات إعلامية كبرى مثل محطة «سي إن إن» ومجلة «تايم»، والذي يدرك بحدسه المهني أهمية القصة والبحث ما بين السطور وخلف الكواليس. ولذلك لقيت كتبه المهمة النجاح والرواج الكبيرين، وهي الكتب التي تحدثت عن شخصيات ناجحة ومثيرة للجدل مثل ألبرت آينشتاين، وهنري كيسنجر، وليوناردو دي فينشي، وبنجامين فرنكلين، وستيف جوبز وغيرهم.
تناولت كتبه القيّمة عن جدارة واقتدار الشخصية الحقيقية التي تقف خلف الشخصية العامة التي يعرف عنها الناس، وبمشرط جراح قدير يقوم آيزكسون بتحليل وتشريح عميق ولافت للذهنية والطباع التي تتحكم في تلك الشخصية، وما مفاتيح تميزها وتفردها.
والآن يخرج علينا والتر آيزكسون بآخر مؤلفاته عن شخصية مؤثرة ومهمة وناجحة وفعالة ومثيرة للجدل، والمقصود هنا إيلون ماسك؛ أثرى رجل في العالم وصاحب شركة «تيسلا» للسيارات الكهربائية ومالك موقع «إكس» للتواصل الاجتماعي الذي كان يعرف سابقاً بـ«تويتر»، وهو أيضاً مؤسس شركة «سبيس إكس» للفضاء التجاري، بالإضافة إلى كثير من الشركات الأخرى التي تعمل في مجالات الطاقة البديلة والتقنية الطبية العصبية على سبيل المثال لا الحصر.
ومن نافلة القول أن إيلون ماسك من أهم وأكثر رجال العالم تأثيراً في المجال الاقتصادي، فهو يملك شركة سيارات شكلت ثورة في مفهوم السيارات الكهربائية أجبرت كل المصنعين الآخرين على اللحاق بها، حتى أصبحت شركة «تيسلا» ذات القيمة السوقية المالية الأعظم، متفوقة على قيمة أهم منافسيها مجتمعين. وفي برنامجه الفضائي يسعى لتوطين 50 مليون شخص على كوكب المريخ لقناعته بأن على البشر أن يكونوا كائنات قادرة على العيش في أكثر من كوكب، خصوصاً مع التهديدات المختلفة التي يواجهها كوكب الأرض. وهو أيضاً الرجل نفسه الذي يراهن على تسخير تقنية الشرائح الإلكترونية بعد زرعها في الدماغ البشري، وجعلها أداة علاج لمشاكل فقدان البصر أو السمع أو النطق أو أمراض العقل، كالصرع وأل زهايمر والباركنسون والتصلب اللوحي.
اشترط والتر آيزكسون على إيلون ماسك مرافقته لمدة عامين حضر فيها اجتماعاته المختلفة وورش العمل واتخاذه قرارات مهمة جداً، وكذلك شاهده في أوقات بعيدة عن العمل يسخر ويمرح، ولكن دماغه لا يتوقف عن العمل خلالها. وهناك أكثر من مائة مقابلة حصل عليها آيزكسون مع ماسك وموظفيه من كبار التنفيذيين في شركاته أعطته زخماً مهماً للغاية مكنه من تكوين الصورة الكاملة في الكتاب لإيلون ماسك.
الخلاصة المثيرة من كتاب آيزكسون الشيق عن إيلون ماسك، أن الرجل كأنه بشخصيات مختلفة، بحسب الناس والمناسبة التي أمامه، ويرجع آيزكسون رغبة ماسك الهائلة في صناعة الإثارة وتحقيق النجاح لطفولة تعيسة للغاية بسبب قسوة والد إيلون ماسك على ابنه وتعديه اللفظي والعنف الجسدي، وتحطيمه نفسياً باستمرار، ما ولّد فيه كائناً غاضباً متوحشاً كان من الممكن جداً أن يسلك طريق الشر ويخوض في ظلمات عوالم الجريمة، إلا أنه صنع لنفسه التحدي الكبير وواجه شياطينه وانتصر عليها، وكان النجاح أكبر انتقام من غضبه ونقمته.
كتب السيرة الذاتية، المميزة والمكتوبة بحرفية شديدة، هي إبحار في أعماق الشخصية والتمعن في عناصر التميز والخروج بعبر وفوائد ودروس بعيداً عن مجرد الانبهار والإعجاب، ولكن التعلم منها والاستفادة؛ بذلك تكون أشبه بدورة مركزة عن مدرسة الحياة.