بقلم: حسين شبكشي
منذ أيام قليلة تم الإعلان فلكياً عن انتهاء موسم الصيف ودخول فصل الخريف الذي يعد التمهيد الأولي لفصل الشتاء. ومع دخول الأيام الأولى من الفصل الجديد بدأت كرات الثلج الاقتصادية تتدحرج من رأس الجبل، فها هي عملات العالم الأساسية كالجنيه الإسترليني واليورو الأوروبي والين الياباني والفرنك السويسري تهوي إلى مستويات متدنية وتاريخية غير مسبوقة أمام الدولار الأميركي، الذي بات يتصدر المشهد الاقتصادي بامتياز.
بالنسبة لبريطانيا، فإن السياسات الضريبية التي اقترحتها حكومة رئيسة الوزراء المنتخبة حديثاً ليز تراس، وسقف فواتير الطاقة على المواطنين، عدها الخبراء «مغامرة عاطفية وغير واقعية اقتصادياً»، وسترهق الاقتصاد البريطاني، وبالتالي تدهورت معها قيمة الجنيه الإسترليني. البنك المركزي الياباني تدخل بشكل كبير وفوري لإيقاف تدهور قيمة الين، ولكن ضغط الركود الاقتصادي وشبح آثاره المدمرة على الاقتصاد الياباني لا يزال موجوداً ولا يمكن إغفاله.
أما في أوروبا، فإن الإحساس بخطورة المشهد الاقتصادي القائم حالياً تم ترجمته من خلال صناديق الانتخابات في كل من إيطاليا وقبلها السويد. إيطاليا وهي صاحبة الاقتصاد الثالث أوروبياً في الحجم والأهمية، اقتصادها محمل بأعباء القروض، ولم يعد من الممكن أن يتحمل المزيد من أعباء تكلفة فوائد القروض التي تواصل ارتفاعها، وبالتالي جنح الناخب الإيطالي بعنف شديد نحو مرشحي اليمين المتطرف بقيادة شخصيات متأثرة بإرث الزعيم الفاشي التاريخي موسوليني، ليتولوا قيادة البلاد في الأيام المقبلة. السويد هي أيضاً اختارت مرشحين من اليمين المتطرف لقيادة المرحلة التالية، وكما قيل قديما إذا جنحت السويد الهادئة المعتدلة نحو الخيار المتطرف، فتأكد أن الوضع في أوروبا ليس بخير.
مخاوف الركود والتضخم تأكدت ومستمرة والانتقاد المتواصل للسياسات النقدية في كل من البنك الفيدرالي المركزي الأميركي وبنك إنجلترا المركزي، ولومهما على تدمير الثروات في أسواق البورصات المالية حول العالم برفع الفائدة المتواصل والمبالغ فيه، الذي أدى إلى إعلان نتائج سلبية لشركات كبرى أقل من المتوقع بعد موجة هائلة من التفاؤل كانت تسود الأوساط الاقتصادية في بداية العام، مع فتح الدول لحدودها وأسواقها عقب انقضاء جائحة «كوفيد - 19» وآثارها الكبيرة والخطيرة والمدمرة.
وهذا الوضع المضطرب عندما تضاف إليه التطورات الآخذة في زيادة التعقيدات بخصوص حرب روسيا في أوكرانيا، والتهديد الجاد من قبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باستخدام السلاح النووي فاقم الأوضاع سوءاً، وأكد أن الحرب سيطول أمدها، وأن الاعتقاد بأن الحرب شارفت على النهاية هو مبالغة في التفاؤل.
وهذا ما أدى إلى هبوط حاد في أسعار البترول التي لها حساسية شديدة جداً فيما يخص معلومات عن أي ركود اقتصادي متوقع، وهو أيضاً الشيء نفسه الذي طال أسعار الذهب وأدى إلى هبوط حاد فيها.
الربع الأخير من السنة الحالية الذي فيه موسم الشتاء، هو المشهد الذي حذر منه الكثيرون مراراً، والذي ستكون فيه قدرات السداد للمجتمعات الغارقة في القروض والديون الاستهلاكية قد بلغت مداها وحدها الأقصى، خصوصاً مع الركود الهائل والتضخم غير المسبوق، مما سيترجم عملياً إلى إفلاس لبعض المؤسسات المالية والشركات الكبرى المتأثرة وفوضى في الشارع مع الاحتجاج وارتفاع معدلات الجريمة المتوقع والضغط الذي سيسببه كل ذلك على القرار السياسي في البلاد المتأثرة.
لاري سامرز وزير المالية الأسبق في حقبة الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، وأحد أهم العقول الاقتصادية في العالم، اتهم بريطانيا بأنها «تدير سياستها النقدية بأسلوب دول الأسواق الناشئة، وأن ما تقدمه من سياسات اقتصادية معيب، ولا يليق بدولة صناعية عتيدة مثلها، ولا أبالغ بالقول عندما أؤكد أنها الأسوأ أداءً في الدول الغربية، ومنذ كارثة (بريكست) وهي تتخبط».
الاقتصاد وأزماته يبقيان دوماً معيار الإدارة والقيادة لساسة العالم، فهما تطبيق حقيقي وعملي لمنهجية إدارة الأزمات التي تبقى هي أساس تقييم كل تنفيذي وقيادي ومسؤول.
حجم التحدي كبير والخوف من القادم مستحق، لأن المسألة ليست اقتصادية بالمطلق، ولكن هناك خليطاً من تصفية الحسابات السياسية بين كبار اللاعبين المؤثرين في المشهد العريض، ولا أجد أبلغ من المثل الهندي القديم الحكيم لأختم به الكلمات، الذي يقول: «عندما تتصارع الفيلة يموت العشب».