بقلم - حسين شبكشي
بيرو؛ بلد في أميركا الجنوبية، بدأ سهمه في الصعود، فهو مقصد سياحي استثنائي لهواة الآثار، خصوصاً لحضارة المايا. وبدأ مطبخه بأطباقه المميزة والشهية يغزو أسواق العالم حتى أصبحت وجبة «السيفيتشي» مطلباً لهواة المأكولات العالمية.
وهو أيضاً موطن صوف «الفيكونيا» الأنعم عالمياً والأغلى ثمناً. وهو بلد ماريو فارغاس لوسا الأديب والسياسي المرموق، الذي حاز جائزة نوبل للآداب عام 2010، وبلد أسطورة كرة القدم تيافيلو كوبياس، وبلد الرئيس الأسبق ألبيرتو فوجيموري الذي يجيء من أصول يابانية، وتمكن من هزيمة المد الشيوعي وعصاباته الإرهابية المسلحة.
وبالإضافة إلى كل ما سبق هو أيضاً بلد هيرناندو دي سوتو أحد أهم اقتصاديي العالم المعاصرين، وصفته مجلة «الإيكونوميست» البريطانية المرموقة بأنه ثاني أكثر شخصية تأثيراً في العالم اليوم، ووصفته مجلة «تايم» الأميركية المعروفة بأنه أحد أهم خمسة مبدعين أميركيين لاتينيين بارزين في القرن العشرين. وهو في كتبه ومقالاته دائماً ما ينحاز إلى الفكر الاقتصادي التقليدي، وله مقولة مشهورة جداً يقول فيها «إن الأرض هي أساس الاقتصاد، ومن تحكم في الأرض تحكم في رأس المال». وله كتاب في غاية التأثير والأهمية عنوانه «لغز رأس المال» يطرح فيه سؤالاً مركزياً هو: لماذا تنجح الرأسمالية في الغرب وتفشل في كل مكان آخر؟ وهو بذلك لا يعتبر نجاحات الصين والبرازيل على سبيل المثال نجاحات تحسب للنموذج الرأسمالي التقليدي.
ويعيد دي سوتو السبب في ذلك الأمر أن منظومة القانون والقضاء النافذ، وسلاسة الأنظمة، وحماية الحقوق هي السند الرئيسي لأسباب النجاح المستمر للمنظومة الرأسمالية في دول الغرب. ولكنه يضيف إلى ذلك الأمر أن الحراك التشريعي النابع من الجذور الذي تراعى فيه المصالح العامة، والذي يتحول إلى قوانين تحميه الأذرعة القضائية هو الذي يجعل لهذه القوانين المستجدة الجدارة والمصداقية والقبول العريض والاحترام.
كتب دي سوتو كتابه هذا إليه في عام 2000 بعد كتاب قبله لا يقل أهمية عنه بعنوان «الطريق الآخر»، وفيه يقول إن هناك إجابة اقتصادية أمام كل دولة تواجه الإرهاب (كالذي واجهته بيرو في حقبة التسعينات الميلادية من القرن الماضي)، وركز فيه على وجود الاقتصاد الخفي والموازي غير المقنن الذي يكون ثغرات خطيرة في خطط التنمية، وبالتالي فرص الاستثمار السوية.
كما له كتاب مهم جداً صدر في عام 2006 بعنوان «إدراك حقوق الأراضي»، ويذكر فيه أنه عبر التاريخ حصلت العديد من الحروب والتعديات بسبب عدم وضوح في ملكية الأرض، ويستشهد بما حصل في السودان وزيمبابوي وأراضي الفلاحين في الصين على سبيل المثال، واعتبر أن حقوق ملكية الأرض تدخل من ضمن حقوق الإنسان.
هيرناندو دي سوتو قدم العديد من التحديات الاقتصادية كمفكر واقتصادي من العالم الثالث بمنظور جديد ومن زاوية مختلفة على غير ما قدمه اقتصاديون من أميركا مثل ميلتون فريدمان أو بول كروغمان أو جيفري ساكس أو نظرائهم من المملكة المتحدة. ولم يكن هرناندو دي سوتو الاقتصادي الوحيد القادم من بيرو والمحدث للضجة والحراك (وإن كان هو الأهم والأكثر تأثيراً)، ولكن هناك أيضاً أوزوالدو دي ريفيرو، وهو اقتصادي سياسي دبلوماسي مخضرم قدم مؤلفاً مهماً جداً ومثيراً للجدل بعنوان «خرافة التنمية الاقتصادية: اقتصاديات مستنفدة في القرن الحادي والعشرين»، وفيه ينسف تماماً جدارة ووجاهة فكرة التنمية الاقتصادية بحسب مفهوم المؤسسات الدولية، ويستشهد بالذي حصل لأغلبية دول العالم الثالث، وسقوطها في فقر مدقع وغرق في بحر من الديون لا قاع له وبطالة متفشية (وهو بهذا الطرح يذكرنا بما تطرق إليه عالم الاقتصاد السياسي الاجتماعي الراحل المصري جلال أمين الذي طرح نفس الهواجس في كتابين؛ الأول بعنوان «تنمية أم تبعية اقتصادية وثقافية»، والثاني بعنوان «خرافة التنمية والتقدم»).
أهمية طروحات اقتصاديي بيرو أنهم يبرزون أهمية الانفتاح على مدارس الرأي وأن لا أحد لديه احتكار للحقيقة، خصوصاً في زمن الفضاء المفتوح والحدود المطلقة.
المعرفة قوة، كانت ولا تزال المقولة التي تصف وبدقة بالغة أهمية الاطلاع والتعلم بدون قيود ولا تحكم ولا رأي مسبق.
إذا كان غابرييل ماركيز الكاتب والروائي الكولومبي الاستثنائي قد وصف ذات يوم بأنه رائد كتابة «الواقعية السحرية» في العالم وأميركا اللاتينية تحديداً، فإن هرناندو دي سوتو هو «ماركيز» الاقتصاد.