بقلم - حسين شبكشي
مذكرات أيّ مسؤول عربي فرصة نادرة للدخول في صندوق أسود، ومعرفة جزء بسيط من كواليس صناعة القرار في البلدان العربية. هذا هو الشعور الذي تملّكني وأنا أقرأ الكتاب الجديد، الذي صدر منذ أيام معدودة، والمعنون بـ«القرار»، وهو كتاب فيه سرد قيم ومهم لمذكرات رئيس الوزراء الأردني الأسبق مضر بدران، التي شملت أحداثاً ملتهبة ومثيرة للجدل على الصعيدين المحلي والإقليمي. ولقيت بعض الأجزاء من هذه المذكرات جدلاً متوقعاً، خصوصاً ما تعلق منها بغزو العراق للكويت.
لم تكن هذه المذكرات الوحيدة التي اطلعتُ عليها في الفترة الأخيرة، ولكني قرأت أيضاً الكتاب الضخم «أجمل التاريخ كان غداً»، الذي حمل بين طياته مذكرات إيلي فرزلي، نائب رئيس البرلمان اللبناني، وأيضاً كتاب «الرئاسة المقاومة» للرئيس اللبناني الأسبق أمين الجميل، وتطرقت صفحات الكتابين إلى سلسلة ثرية من الأحداث السياسية المتشنجة كما هو المعتاد في لبنان. ولكني لم أستطع أن أتمالك نفسي من دون إجراء المقارنة بين الأردن ولبنان.
البلدان من دول المواجهة مع إسرائيل، وكلاهما فيه أوضاع ديموغرافية دقيقة يجب مراعاتها. والبلدان فيهما حرية إعلامية وحياة برلمانية، إلا أن الأردن تمكن من تكوين دولة مؤسسات، بينما يبدو لبنان كدولة أفراد، فكان الأردن، وأصاب لبنان ما أصابه. ولعل علة لبنان أنه كان النموذج الصارخ لما يُطلق عليه وصف «الدولة الرخوة».
لا تزال التقارير المتخصصة تصدر ضد وعن دول العالم الثالث تباعاً، تحاول تقييم ونقد ومعرفة وكشف أسباب تخلفها وعجزها عن تحقيق طموحات التنمية، وتتفاوت نتائج التقارير في بعض التفاصيل، ولكنها جميعها تدرك تماماً أن هناك مشكلة حقيقية وعميقة. وقد تكون أهم محاولة لفهم أسباب هذه المشكلة ما أوضحه الكاتب الاقتصادي وعالم الاجتماع السويدي «جنار ميردال»، الذي ذكر في كتاب نُشِر له في عام 1970 بعنوان «تحدي الفقر في العالم... نظرية (الدولة الرخوة)»، وهذه الفكرة تكمن في أن «الدولة الرخوة» هي سر البلاء الأكبر وأخطر أسباب استمرار الجهل والفقر والتخلف. وما قصده المؤلف بالدولة الرخوة، هو وجود كيان مؤسس يصدر قوانين ولكنها لا تُطبق، وليس بسبب وجود ثغرات في القوانين، ولكن لأن أحداً لا يحترم القانون أصلاً؛ فالكبار لا يبالون به لأن لديهم القدرة المالية والجاه الاجتماعي والنفوذ السياسي الذي يحميهم منه، أما الصغار فهم يعيشون على الرشوة لتلافي القانون. كل شيء له تسعيرة، والسعر قابل للتفاهم.
في الدولة الرخوة القيود والأنظمة لا تُفرض إلا لحماية أو لغاية أو مصلحة خاصة، وبالتالي فهي من الممكن أن تكون باب ثراء بكسرها والخروج عنها، والضرائب والرسوم أساساً لا تُحصّل بشكل فعال ومؤثر، والمناصب باتت مطلباً وحلماً نظراً لما توفره من «فرص» لثراء أسطوري وحصانة مطلقة، والموافقات والتواقيع والاستثناءات، تكون هبات ومكافآت للمحاسيب والأنصار والأقارب، كاستثناء القروض التجارية من الشروط ومنحها ولأسباب مجهولة لأشخاص بعينهم دون آخرين كجزء من إعادة هيكلة اجتماعية حتى يتحول الأمر بالتدريج إلى أسلوب حياة لا يمكنك تصور الأيام بدونه، ويستشري في السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية كالسرطان الخبيث.
يواصل ميردال شرحه للدولة الرخوة ويقول إنها تحول المجتمع إلى كيان طبقي بحت؛ الطبقة العليا تقوى لتزداد سطوتها على من هو دونها وهكذا حتى تتحول إلى قوة مطلقة، وبالتالي كل طبقة يتحول ولاؤها بالتدريج من الولاء للوطن إلى الولاء للعائلة أو القبيلة أو العشيرة أو المدينة أو المنطقة أو المذهب أو الطائفة حتى يصبح الأمر عداوة للصالح العام، وبالتالي لا يتحدث أحد عن هذا «السر القذر»؛ لأن هناك كثيراً من المستفيدين منه بشكل أو بآخر.
الكاتب الراحل الكبير أحمد بهاء الدين كان له مقال عظيم بعنوان «فضائل الفساد»، كتب فيه أن الرجل الذي كان يريد فتح مصنع، ويعرف أن إجراءات الموافقة عليه ستستغرق عاماً، كان يدفع رشوة للحصول على الترخيص المطلوب في سبعة أيام، فيتربح عوائد سنة من المصنع الذي تمناه، وهو بطبيعة الحال يربح أضعاف قيمة الرشوة. فالفساد بالتالي كانت مهمته «تزييت» عجلات الإنتاج!
الفساد هو السرطان الأخطر الذي يهدد الدول ومؤسساتها، وهو الذي يجعل من دولة مثالية قادرة، دولةً رخوة، ثم تخرج عن السيطرة لتتحول إلى دولة فاشلة.
هذه فائدة قراءة المذكرات الشخصية للساسة العرب، فهي تفتح الجراح وتحفز على النقاش والتفكير. مع شديد الأسف لا يوجد إلا الشحيح من هذه المذكرات!