بقلم - حسين شبكشي
في عالم السجاد الشرقي يحظى السجاد الإيراني والتركي بالشهرة الأكبر، إلا أن النوعية الأهم التي يحرص عليها مقتنو السجاد في المزادات العالمية تبقى تلك الآتية من بلاد القوقاز.
والسبب في ذلك أن كل قطعة تحكي جزءاً من التاريخ المهم لهذه المنطقة الثرية والمعقدة من العالم؛ فكل قطعة تحكي حكاية تخص قبيلة بعينها، لها تصاميمها المميزة، وألوانها المبهجة المصنوعة طبيعياً من الفاكهة والخضراوات، التي كانت تُستخدم كرسائل مشفرة عبر الحدود أيام الاضطرابات السياسية الكثيرة التي مرَّت بها عبر السنين. ومن أجمل أنواع السجاد القوقازي الشهير، هو سجاد كاراباخ المعروف برسومه الرقيقة والناعمة والورود الكبيرة المبهجة. تسابق في اقتنائه ملوك وأباطرة ونبلاء القارة الأوروبية، ولعل أروعه تلك القطع المميزة المعلقة في قصور الهابسبورغ في النمسا.
واليوم تعود منطقة إقليم ماغورنو كاراباخ إلى قلب الأحداث، وذلك بعد انطلاق الحرب الدامية عليها بين كل من أرمينيا وأذربيجان. وهو صراع قديم متجدد، وله أبعاد شديدة التعقيد؛ ففي ظاهر المسألة يبدو أن الموضوع له علاقة برغبة سكان الإقليم، الذي يتكون من أغلبية من أصول أرمنية تتجاوز 91 في المائة من إجمالي نسبة السكان، في الاستقلال عن أذربيجان، وهذا التوجه يلقى دعماً صريحاً من قبل أرمينيا (التي تسعى لضم الإقليم إليها لاحقاً). أذربيجان تعتبر هذا الحراك تهديداً صريحاً لأمنها القومي، ويقوم بتأييد الموقف الأذري بشكل واضح تركيا على المستويين السياسي والعسكري، والسبب المعلن لهذا التأييد أن تركيا تعتبر العرق الأذري امتداداً للعرق التركي، وبالتالي هناك سبب قومي عميق لهذا الدعم رغم الاختلاف المذهبي بين البلدين المسلمين؛ فتركيا سنية، وأذربيجان ثالث أكبر بلد شيعي في عدد السكان، بعد إيران والعراق. أما أرمينيا فتلقى التأييد الصريح من روسيا وإيران. التأييد الروسي سببه اتفاقيات أمنية مهمة، وأيضاً كون أرمينيا أحد أهم قلاع المسيحية الأرثوذكسية في العالم، ومن أقدم كنائسها، وروسيا بوتين باتت تعتبر نفسها حامية الأرثوذكس في العالم اليوم. أما إيران فتؤيد أرمينيا نكاية بأذربيجان التي تجمعهما خلافات قديمة.
ولكنها السياسة والمصالح التي تبيح كل تحالف. وهناك أيضاً مسألة «السيطرة» و«التحكم» على مسار خطوط الغاز والنفط في آسيا الوسطى وبحر قزوين الغني بالاثنين. ليست هذه هي المرة الأولى التي تندلع فيها شرارة الاقتتال بين الفريقين. فهناك صراع قديم ممتد لأكثر من مائة عام مضت حيث كانت المنطقة مسرحاً مفتوحاً للصراعات والتنافس على الموارد والنفوذ بين المسيحيين الأرمن والمسلمين الترك والفرس. بدأت ملامح الصراع الحالي عام 1988 عندما طلب أرمن كاراباخ من السوفييات نقل الإقليم من أذربيجان السوفياتية إلى أرمينيا السوفياتية، وبدأت المواجهات العسكرية من وقتها. وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي وتحديداً في عام 1991 أعلن الإقليم «استقلاله»، وقيام جمهوريته المستقلة التي لم يعترف بها أي نظام في العالم، بما ذلك أرمينيا نفسها.
يتفوق الجانب الأذري في هذه المواجهة بكل الأشكال؛ فأذربيجان يبلغ تعداد سكانها ثلاثة أضعاف نظيرتها أرمينيا، والتفوق العسكري أكثر من ذلك بكثير في العدد والعتاد، وكذلك لا يمكن إغفال أنها صاحبة قدرة اقتصادية أقوى وأهم نتاج مدخولاتها وعوائدها العالية نتاج مبيعات النفط والغاز. والتصعيد المستمر قد يؤدي إلى مواجهة بين روسيا وتركيا (وهو المشهد الذي تفاديا حدوثه في ليبيا وسوريا) ولكن هذه المرة جغرافيا الصراع وقرب المسافة قد تحكم على الظروف. ولا يمكن إغفال الرضا الأميركي والغربي عن إشغال تركيا وروسيا بتحد مهم بعيداً عن شرق المتوسط الذي تولدت فيه ظروف مقلقة وغامضة كانت في طريقها لمواجهة عسكرية حتمية بين دول أعضاء في حلف الأطلسي، في مشهد سوريالي خيالي يبعث على الدهشة والسخرية في الوقت نفسه.
الصراع في الإقليم ظاهره عرقي بحت، ولكن هناك أحلام تحرك هذا الصراع، أحلام تخص إمبراطوريات قديمة يسعى أصحابها لإعادة إحيائها، لا فرق في ذلك بين الحلم الروسي أو الفارسي أو العثماني. وتبقى دائماً الجغرافيا هي مسرح التصفية والممارسة لتلك الأحلام. ستزول الأحلام، ويبقى السجاد لينسج أبناء هذا الإقليم قطعاً جديدة مبهجة يحكون بحياكتهم القصة الحالية الحزينة.