بقلم - حسين شبكشي
ليس سراً ولا غريباً أن الدين يلعب دوراً محورياً في السياسة الأميركية، ويظهر هذا بشكل واضح وجلي خلال فترة الانتخابات الأميركية. ولهذا الدور مكانة أكثر من خاصة في الولايات المتحدة الديمقراطية، خصوصاً إذا ما تم مقارنتها بالدول الديمقراطية الأخرى في المجموعة الصناعية الأولى عموماً، وفي العالم الغربي منه تحديداً.
وعلى الرغم من كون التعديل الدستوري الأول في الدستور الأميركي، يمنع بوضوح شديد تشكيل أي حكومة أميركية على أساس ديني، إلا أن ذلك لم يمنع المجاميع الدينية من تشكيل قوى ضغط ونفوذ للتأثير على الحملات الانتخابية وتمويلها.
وحصلت تغييرات مهمة جداً في مواقف الناخبين المتدينين فيما يخص الحزبين الكبيرين (الجمهوري والديمقراطي) عبر الوقت. فمنذ القرن التاسع عشر حتى بدايات القرن العشرين، كان معظم أهل ولايات الشمال من البروتستانت جمهوريين، في حين كان معظم الكاثوليك ديمقراطيين، بينما كان حال أهل ولايات الجنوب مختلفاً. فمنذ ستينات القرن التاسع عشر إلى ثمانينات القرن الماضي، كانت أغلبية البيض من الديمقراطيين، بينما كان السود يصوتون للحزب الجمهوري. وهذا الأمر تغير تماماً بطبيعة الحال منذ أكثر من أربعين عاماً. وقتها كان الرئيس الأسبق جيمي كارتر، المنتمي للحزب الديمقراطي، هو آخر مرشح من حزبه يصف نفسه بأنه «محافظ ومتدين»، ومواظب جداً على حضور دروس الأحد التبشيرية. بعد ذلك حدث التحول الكبير بالنسبة لولايات الجنوب الأميركي، وولدت ظاهرة «ديمقراطيي ريغان» نسبة إلى المرشح الجمهوري، الذي فاز بعد ذلك بالانتخابات الرئاسية رونالد ريغان، والذي تسبب في انقلاب تحولي في الولايات الجنوبية التي كانت تصوت تقليدياً للحزب الديمقراطي لتصبح ولايات جمهورية من وقتها حتى اليوم. وقد روج ريغان لنفسه على أنه محافظ ورأسمالي، ولم يقل عن نفسه أنه متدين (وهو لم يكن كذلك)، ولكن ولدت مع ريغان «البراغماتية السياسية»، للكتلة السياسية المسيحية، والمتمثلة في واجهتها القس المتشدد جيري فالوال، زعيم التكتل المسيحي الإنجيلي المعروف باسم «أغلبية القيم»، وانضم إليه القس المؤثر الآخر بات روبرتسون، ليشهد هذا الحراك مولد التكتل الجغرافي المؤثر المسمى بالحزام الإنجيلي، الذي يتكون من 73 مليون ناخب يصوتون لصالح القضايا الاجتماعية والاقتصادية المحافظة، مثل معارضة الإجهاض، ومعارضة زواج المثليين، وحق امتلاك السلاح، وتخفيض الضرائب، وغير ذلك من القضايا المشابهة.
لعب الإنجيليون دوراً متعاظماً في السياسة بعد ذلك، وكان لهم فضل كبير في فوز جورج بوش الأب، وبعد ذلك في فوز جورج بوش الابن الذي يقر هو نفسه بأنه إنجيلي ولد من جديد، وكان فوز بوش الابن مدهشاً وغير متوقع أبداً، ولكن الحراك الممنهج للدعم الإنجيلي لعب دوراً مؤثراً. وقد وصف القس المتطرف مارك لاند، الذي يرأس كنيسة في مدينة ناشفيل التي تلقب بفاتيكان الجنوب (والذي أصبح مستشاراً دينياً لبوش الابن بعد ذلك) بقوله: «لقد فاز ابننا».
أيضاً لعب الإنجيليون دوراً مهماً جداً في فوز الرئيس الحالي دونالد ترمب بالرئاسة في عام 2016، ووافقوا على ترشيح أحد أهم رموزهم السياسية مايك بنس على البطاقة الانتخابية نفسها مع ترمب في منصب نائب الرئيس. وكان هذا الاختيار صادماً ومفاجئاً للجميع، فالمنهج الأخلاقي لترمب وبنس على النقيض التام من الآخر، ولكن الإنجيليين أظهروا براغماتية سياسية غير مسبوقة، وقرروا التغاضي عن علل وعيوب ترمب التي يرون أنها تناقض تعاليم الدين، وهي الأمور التي كشفتها التفاصيل الثرية لسطور الكتاب المشوق والممتع «ترمب والأنقياء: كيف تمكن اليمين الديني الإنجيلي من إيصال دونالد ترمب إلى البيت الأبيض» للمؤلفين الأميركيين جيمس روبرتس ومارتن ويتوك. ويوضح الكتاب الكثير من التفاصيل المهمة والمثيرة عن العلاقة المتشابكة والمعقدة بين التيارات الإنجيلية وإدارة الرئيس المثيرة للجدل. ويراهن الرئيس وإدارته على انتفاضة دينية أخيرة له، تحقق له انتصاراً انتخابياً ثانياً، يبدو حتى اللحظة صعباً وبعيد المنال، ولكن في حقبة ترمب بات كل شيء ممكناً ومتوقعاً.
هذه سنة مختلفة بكل تفاصيلها، وتحتل الصحة العنوان الرئيسي في عناوين الأخبار والاهتمام، وإذا كان للسياسة والاقتصاد «دين» يروج له بحسب الميول، فإن الصحة لا دين لها وتعتمد على القرارات الصحيحة والقيادة الاستثنائية، وهي المرجح الأكبر على ما يبدو للناخب اليوم.