بقلم - جبريل العبيدي
لأي دولةٍ الحقُ السياديُّ في اتخاذ الإجراءاتِ التي تراها تخدم مصالحَ بلدها، سواء كانَ عبرَ التطبيع أو المقاطعة، فلكل بلدٍ خصوصيةٌ في الواقع السياسي، خصوصاً بلدانَ المواجهة الحدودية مع إسرائيل، وحتى تلك التي تربطها مصالحُ اقتصادية، ولكنَّ الأمرَ مع حكومة «الوحدة الوطنية» الليبية كانَ مختلفاً، فالتطبيع كانَ منفرداً، ومن دون علم أو إذنٍ من البرلمان، أو حتى المجلس الرئاسي، شريكي القرارِ مع الحكومة، بل ومنح وسحب شرعيته، وبالتالي كانَ ما قامت به الحكومة تطبيعاً مجانياً ولصالح بقاء الحكومة منتهية الولاية، بعد أن سحب الثقة منها البرلمان الليبي المنتخب. محاولة التطبيع من قبل حكومة الدبيبة كانت من أجل استخدامِها ورقةً لتكريس بقائِها وليست لصالح ليبيا بأي شكلٍ من الأشكال.
التخبط الحكومي في إسرائيل وراءَ تسريب خبر اللقاء بين وزيري الخارجية الليبية والإسرائيلية بوساطة إيطالية تسبَّب في أزمةٍ للحكومة في البلدين؛ فالأولى السيدة المنقوش وزيرة خارجية ليبيا تسبب في سقوطها وتخلي رئيس حكومتِها عنها، رغم أنَّ اللقاءَ بعلمه وبتعليمات مباشرةٍ منه، إلا أنَّه فضَّل أن تكونَ السيدة المنقوش كبشَ الفداء أمام غضب أنصاره، خصوصاً من الإسلام السياسي، إذ خرجَ المفتي المعزول معلناً تكفيرَ من قام باللقاء، ووصفه بعمل الشيطان، وهو المفتي نفسُه الذي ساند الجماعاتِ التكفيرية بجانب عراب «الربيع العربي» الفرنسي اليهودي برنارد ليفي، زمن انطلاق حراك فبراير عام 2011 لإسقاط نظام القذافي.
في الجانب الآخر، تعرَّض وزيرُ خارجية إسرائيل للانتقادات شديدة اللهجة، بسبب تسريبه الخبرَ لوسائل الإعلام، حيث وصفته المعارضة الإسرائيلية بعدم النضج السياسي، بل و«الغباء» السياسي، وفقَ تعبير المعارضة، واتسعت دائرةُ الانتقادات، خصوصاً من الولايات المتحدة الأميركية راعية اللقاءات، التي اتَّضح أنَّها بدأت منذ عامين بوساطة من اليهود «الليبيين» في الخارج، حيث وجهت رسالة شديدة اللهجة والتعبيرات للخارجية الإسرائيلية، التي وصفتها بهدم مشروع تطبيع بدأ منذ عامين، وتسبب في أضرار للطرفين السياسيين في ليبيا وفي إسرائيل.
بعيداً عن تفسيرات وخيبة الأملِ لدى السياسيين من تسرب الخبر مما تسبب في اندلاع مواجهاتٍ عنيفة في ليبيا، دفعت وزيرة الخارجية للهروب بطائرة خاصة من ليبيا، خشيةَ أن يطولَها عنف المتظاهرين، الذين اقتحموا مبنى وزارة الخارجية في طرابلس وبعض المقرات الحكومية الأخرى.
براغماتية الحكومة الليبية للبقاء في السلطة، حتى عبر تطبيع علاقات ليست فيها أي مصلحة للشعب الليبي، بل هي مقدمة لابتزاز ليبيا في ملف التعويضات لليهود «الليبيين» الذين غادروا ليبيا طواعية عام 1948 في أكبر هجرة ليهود ليبيا، ثم تبعهم الباقون عام 1967، وفي العامين كانت الهجرة طواعية وليست عبر الإكراه أو الترحيل، كما يزعم بعضهم اليوم، حتى الأملاك التي زعم بعضهم تركها في أغلبها كانت بيع وشراء قبل مغادرتهم، وإن كان هناك بعض الضحايا، فهم رهطٌ قليل جداً، وليس كما يزعم البعض بأنَّها ممتلكات تقدر بمئات المليارات.
ليبيا لم تكن بيئةً طاردةً لليهود، خصوصاً من عاشوا فيها، والدليل أنَّهم تمسكوا بعادات الليبيين من ملبس ومأكل ومغنى وشعر حتى وهم في المهجر، مما يعكس حالة من الحنين لليبيا، ويؤكد أنهم لم يغادروا ليبيا كرهاً، بل طواعية، لمصالحهم الخاصة، بالتالي ما يقوم به البعض منهم يعد عملية ابتزاز غير مسبوقة تساندهم فيها حكومة اليمين بزعامة بنيامين نتنياهو، التي استغلت تلهف حكومة الوحدة الوطنية، حكومة الدبيبة، للسلطة والبقاء فيها، لتبدأ لقاءات التطبيع لصالح الجانب الإسرائيلي، بينما ليبيا لن تجني سوى غرامة دفع التعويضات الباهظة لأجل بقاء حكومة براغماتية ترفض المغادرة من سلطة ليبيا في مقابل حكومة إسرائيلية في أزمة داخلية تسعى لتحقيق أي مكسب سياسي، ولو كان بالتطبيع المجاني مع ليبيا التي لا تتشارك معها أي مصالح اقتصادية أو غيرها سوى ملف «التعويضات لليهود الليبيين» الملف الشائك من عشرات السنين ومثقل بالافتراءات والأكاذيب والتهويل في حجم الضحايا والتعويضات.
ما قامت به وزيرة الخارجية الليبية بالتأكيد لم يكن عملاً فردياً أو لقاءً بالصدفة، كما زعمت، فاللقاء كانَ بترتيب إيطالي ووساطة من اليهود «الليبيين» في روما وتل أبيب، وباعتراف الجانب الإسرائيلي، الذي كشفَ عن اللقاء بالقول إنَّه تم التنسيق على أعلى المستويات، مما يعني علم رؤساء الحكومات الليبية والإسرائيلية والإيطالية ودعماً لوجستياً أميركياً كراعٍ اللقاءات بين الطرفين، وبالتالي تصبح جميعُ محاولات الحكومة الليبية القول بأنَّ اللقاء كان تصرفاً فردياً من وزيرة الخارجية، واتخاذها كبش فداء تمسح به سوءتها، استخفافاً بالعقول وعذراً أقبح من الذنب.