بقلم - فـــؤاد مطـــر
الآن وقد بات لبنان الوطن والدولة والشعب في أتعس مثلث، وكما لم تواجه دولة في العالم الثالث المصنف أصلاً تعيساً ببعض أنظمة مدنية وعسكرية، سوء حال كالتي يعيشها منذ ست سنوات؛ فإنني وقد قاربت عقارب الساعة الرئاسية على منتصف ليل الحادي والثلاثين من شهر أكتوبر (تشرين الأول) على الالتقاء، إيذاناً ببدء يوم جديد مأمول الإشراق صبحاً مضيئاً على اللبنانيين المحجور على طمأنينتهم، كما على ودائعهم، كما على أدويتهم، كما على إحساسهم بالطمأنينة...
الآن ولهذه المناسبة سأطوي إلى حين الاهتمام مع التحليل بالكلام السياسي الذي طالما صدر عن مسؤولين، وفي جميع المستويات الرسمية والحزبية، وألحق فادح الضرر بالسمعة، وأمعن إحباطاً في نفوس الناس، وسأختار عبارات قالها رموز مرجعيات روحية، لكون هذه العبارات - وبالعربية الفصحى - حققت الصبر الجميل والتفاؤل بالخير بأمل حصوله، إلى جانب تضمين العظات يوم الأحد والخطبة في صلاة الجمعة مفردات فولاذية في حق الذين في مواقع رسمية وحزبية وتيارية وحركية، هم عن واجبهم الوطني ساهون أو مقصرون أو متعمدون. وفي كل الحالات استهانة ما بعدها بالأصول والقيم.
طوال ست سنوات كان اللبناني المضام يرنو سمعاً للعظة التي يلقيها في رحاب الكنيسة البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، والمطران غفرائيل الصليبي، وكلاهما في حالة أسى - كما أكثرية الشعب اللبناني - على الذي أصاب الوطن الذي انتهى بين مستعط أو متسول أو في انتظار نجدات تأتيه، مع أن الله وهب هذا الوطن من مقوّمات العيش الكريم ما يجعله في منأى عن عاديات الزمن، لكن ذلك يستوجب أن يكون المسؤول صاحب ضمير، فلا تكون ممارسة إدارة البلاد على النحو الذي جعل الوطن - كما المواطن - رمزاً للبؤس الشديد، علاوة على سمعة تسببت في نفور عربي ودولي غير مسبوق منه.
وكما عظات قداديس الآحاد، كانت بالروحية نفسها خطبة منابر صلاة الجمعة. الهدف نفسه، والتحذير إياه، والنصح أولاً وآخراً. وهذا الدور الروحاني أحدث سكينة في النفوس، وربما لولاها لكانت جماهير الناس خرجت على أهل الحكم شاهرةً ما هو أقسى من المظاهرات المقموعة، وأكثر سوءاً من الكلام الذي قيل في ساعات ثقيلة الوطأة من الشدة في حق أهل السلطة، من دون استثناء الذين يثبِّتون دعائم مراكزهم، وطمأنة هؤلاء بأن لا خوف عليهم ولا ضرورة لأن يحزنوا؛ لأن مثبتي الدعائم يصونون الأخطاء في مواجهة الكثرة من الناس الذين لا يغفرون ما يتم ارتكابه، ووصل في حالات كثيرة إلى درجة الإثم.
لقد كانت تجربة الحكم من جانب الذين تعاقبوا على إشغال مراكز السلطات وإدارتها بالغة المرارة. وكان المكتوون بإساءات تلك التجربة يأملون تصحيحاً للأخطاء، على أساس أن مثل هذا التصحيح بمثابة تبرئة من الإساءات والآثام، ولكن ما تمناه المكتوون - وهم الأكثرية من الشعب - لم ينالوه. ويوماً بعد يوم، ثم أسبوعاً بعد آخر، وشهراً بعد شهر، ثم سنة سادسة بعد الأولى تباعاً، والحال من السيئ إلى الأكثر سوءاً. وها هي شمس عهد اتصف بالظلم والتظليم على أهبة الانتقال إلى سواد الليل. عسى ولعل يكون الشروق عهداً يعوض الناس ما أفقدوهم نعمة الطمأنينة. وعسى الآتي، ولو بعد التعسير الممنهج، يتأمل فيما كانت رموز المرجعيات تقوله على مدار ست سنوات من العسر يعيشه الناس. فالتمعن فيه ما يجعل العهد الجديد موضع القبول العفوي، وليس عكس ذلك، فضلاً عن أن مفردات قداديس الآحاد، وخطبة صلاة الجمعة، ستكون بما يعوض ما فات، وستكثر كلمات الطمأنينة بعد التحذير... وبالعربية الفصحى نقيض ما حفلت به تصريحات أهل السلطة والحكم والأحزاب على أنواعها، وكانت في معظمها حافلة بالأحقاد والكراهية، ولا علاقة للوطن والوطنية بها.
ويبقى على سبيل المثال استحضار بضع عبارات قالها رموز المرجعيات الروحية (موارنة. أرثوذكس. شيعة. سُنة. موحّدين) في رحاب الكنائس والمساجد، لعل الآتي ومن معه ينأون عما أوجب قوله للأسلاف ذوي الشأن كباراً وصغاراً الذين انصرفوا وباتت المحاسبة لدى رب العالمين. وحيث إن الأمر الأكثر عسراً هو في مَن يكون رئيس الجمهورية، وأن المرجعية الروحية لهذا الرئيس هو بطريرك الطائفة الحالي مار بشارة بطرس الراعي، فإن غبطته كان البادئ في النصح والتحذير، ومن هنا وجوب التركيز أكثر على مضامين عظاته التي هي من رئيس الطائفة إلى رئيس الدولة؛ أحد أبناء هذه الطائفة.
والأقوال التي اخترناها بأمل أن تفي بما أوجب هذه الوداعية من قلم مواطن يمتهن الكتابة لرئيس وطنه المنصرف، هي الآتية:
> البطريرك الماروني بشارة الراعي:
«ينتظر الشعب رئيساً واعداً ينتشل لبنان من الفقر الذي أوصلتْه إليه الجماعة السياسية، أكانت حالمة أم متفرجة».
«إن قوى الأمر الواقع انقلبت على هوية لبنان ودستوره، ورهنت الأرض والشعب والدولة إلى مشاريع خارجية...».
«تعمّد شغور منصب الرئاسة مؤامرة، بل خيانة. ندعو الجميع إلى الكف عن المظاهرات والمساومات، ونأمل في صحوة وطنية لدى الأحزاب والكتل اللبنانية، فتبادر إلى فِعْل الانتخاب، وتقي نفسها عار التاريخ والمستقبل ونقمة الأجيال...».
«على الحياد يتعلق مصير الوجود اللبناني، ومن غير الممكن أن يعيش لبنان هويته وطبيعته ورسالته إذا لم يستعِد حياده الناشط...».
«لا نستطيع أن ننادي بحياد لبنان ونختار رئيساً منحازاً للمحاور، وعاجزاً بالتالي عن تطبيق الحياد. والرئيس الذي لا يشكّل تحدياً ليس بالطبع رئيساً لا يمثل أحداً، ولا رئيساً يخضع لموازين القوى...».
«لا نسكت، بل نرفض منع انتخاب رئيس جديد للجمهورية. لا نسكت، بل نرفض فرْض الشغور الرئاسي. لا نسكت، بل نرفض استباحة رئاسة الجمهورية. لا نسكت، بل نرفض الإجهاز على دولة لبنان وميزاتها ونموذجيتها ورسالتها في هذا الشرق، وفي العالم...».
«إذا كان البعض يعتبر الحياد حلاً صعباً، فإننا نرى فيه الحل الوحيد لإنقاذ لبنان. لقد بات متعذراً إنقاذ الشراكة الوطنية من دون الحياد...».
«لن نوفر جهداً داخلياً وعربياً ودولياً لإنقاذ لبنان. ما عاد الانتظار مرادفاً للثاني، بل لإضاعة الفرص وضياع لبنان، ولن ندعه يضيع مهما كانت التضحيات والمبادرات التي قد نضطر لاتخاذها».
«أداء الجماعة السياسية يثير اشمئزاز الشعب والعالم؛ إذ يعطي الدليل يومياً على فقدان المسؤولية والاستهتار بآلام الشعب ومصير لبنان...».
> مفتي الجمهورية اللبنانية عبد اللطيف دريان:
«الشعب مغلوب على أمره، ومن غير المسموح أن ينحدر به المسؤولون من جرّاء مواقفهم إلى وادٍ سحيق في أودية جهنم التي يكتوي بنارها السواد الأعظم من اللبنانيين الذين فقدوا ما جنوه سحابة أعمارهم، وهجر أبناؤهم الذين خسرهم الوطن ثروة بشرية عليها يقوم مستقبل لبنان الذي أردناه واعداً...».
«بعض المسؤولين اللبنانيين في غيبوبة، وربما يعانون من قصور، ولا يتحملون مسؤولياتهم الوطنية لحماية الدولة ومؤسساتها من الأزمات الصعبة التي تواجهها، والتي تشكّل خطراً على مستقبلها ووجودها...».
«الوطن مهدد من الداخل والخارج، والشعب اللبناني في حال ضياع وتشتت بسبب أوهام الغلبة والانقسامات، مثلما هو مهدد من العدو الإسرائيلي...».
> المطران الياس عودة (متروبوليوت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس):
«لبنان ليس فقط مساحة وحدوداً. إنه شعب عريق حر، مبدع جعله الساعة مطية لأطماعهم وأحقادهم...».
«بقاء لبنان واستعادة عافيته أهم من المسؤولين، ومن كل الأطراف الداخلية والخارجية، ومن كل النزاعات والتسويات...».
> المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان:
«تصالحوا (الكلام موجَّه إلى السياسيين) مع الشعب، ولا تخونوا مَن ائتمنكم على مصيره، فمصير بلدنا في فم التنين. الدولة كمؤسسة وطنية مهدَّدة جداً، ووجود لبنان على المحك. كل مصائب هذا البلد (لبنان) من فساد السياسيين، ولا حل للكارثة التي تعصف بالبلد من دون تضامن سياسي كبير...».
> شيخ عقل طائفة الموحِّدين الدروز الدكتور سامي أبي المنى:
«يواجه لبنان مصيراً صعباً. ورسالتنا كرؤساء روحيين أخلاقية وروحية ووطنية واحدة. قوة الوطن تبدأ بأبنائه عبْر التضامن وعدم الانكفاء. ونقول كفى استهتاراً بالبلد وقد وصل إلى الحضيض...».
«ليكن شعارنا في هذه المرحلة الحساسة من تاريخنا، الحياد عن كل ما يفرِّق، والانحياز إلى كل ما يجمع...».
***
خلاصة القول، أن الكلام الروحي كان الأصدق من السياسي. لعلهما يتساويان في العهد الجديد... هذا إذا لم تكن الولادة عسيرة. والله المعين.