بقلم : فؤاد مطر
تحلُّ يوم الثاني والعشرين من كل عام ذكرى استقلال لبنان (22 نوفمبر/تشرين الثاني 1943)؛ بحيث باتت حاله متخلّصة من الانتداب الفرنسي بمثل حال دول شقيقة وصديقة، أبرزها الجزائر وبعض دول الخليج. وبينما المواطن في أي دولة مستقيمة الحكم لا تتنازعها الأحزاب ذات التوجهات أو العقائد أو الإملاءات الخارجية، يستقبل بمشاعر الفرح ذكرى استقلال الوطن وتغمره أحاسيس الطمأنينة بأن خيمته التي يتفيّأ في رحابها تستحق منه الولاء وذروة السرور، ينتظر حلول ذكرى الاستقلال للتعبير عمّا في النفس، متمنياً لوطنه العزّ والشموخ، وفي الوقت نفسه يعاهد هذا المواطن نفسه بأنه على استعداد لكي يفدي الوطن بروحه عند الضرورة.
وصلت الحال بالأطياف هذه إلى أن يوم 22 نوفمبر من العام مجرد يوم عادي من شروق شمسه إلى غروبه، ومن دون التفاعل بمشاعر من الولاء والفرح لهذه الذكرى. وهذا عائد إلى أن رؤوس الدولة منشغلون في صراعات يشكّل كل من هؤلاء الدور بوصفه طرفاً في لعبة الصراعات تلك. وينقضي بلا إحيائه حدثاً وطنياً بامتياز.
وخطورة هذا الحدث أنه أدخل لبنان في بوتقة أضاعت مشاعر الفرح ببدء دولته المستقلة المقبولة، تبعاً لذلك عضويته في منظمة الأمم المتحدة، حيث بدأ كل طرف عربي أو حتى أجنبي صاحب «أجندة» مراميها توسيع مساحة التزعم يطرق باب الوطن اللبناني وفي معظم الأحيان دون استئذان، تهيباً من خلال أحد أصحاب الشأن في الوطن، لكي يدخل ويستقر وينشر ألوية طلائعه الحزبية في الأرض اللبنانية، وكأنما الوطن ليس دولة مستقلة، وأن الاستقلال يعني عدم إتاحة المجال بأي حال لأصحاب تطلّعات حزبية خارجية. فهذا وطن لم يعد تحت الوصاية فاقداً هويته الوطنية وشرعية سيادته، لكي يتم استعماله كما استعمال ناقلة ركاب من بلد إلى آخر.
وبينما هذه الأحزاب التي تكاثرت تلتزم بإقامة الاحتفالات لمناسبة ذكرى تأسيس هذا الحزب، والتأسيس حدث خارج لبنان، أو لمناسبة لا علاقة لهذا الحزب أو ذاك موطئ أقدام فيه، فإنها في الوقت نفسه كانت غير مهتمة بذكرى استقلال لبنان، مع أن جمهور هذه الأحزاب لبناني، فضلاً عن أنه عندما تكون رؤوس الدولة لا ترى في تلك الذكرى أنها الشتلة الوطنية التي تتم رعايتها على الوجه الأكمل والقيام بأعلى درجات الحفاوة بالذكرى رسمياً كما هو الواجب، وشعبياً كما هي المشاعر، فمن الطبيعي أن يحل يوم الثاني والعشرين من نوفمبر من العام ويقتصر اهتمام أُولي أمور الرئاسات والمراتب الأدنى على مجرد عرض عسكري باهت، وتعطيل العمل في الدوائر الرسمية في الوقت نفسه.
هنا تستوقفنا حالة غير مستحبة، هذا لتفادي القول إنها غير محترمة، وهي أن لبنان من دون رأس في فترات حدثت أكثر طولاً واستهتاراً بالدستور وبالميثاق، فضلاً عن الشعور بأن لبنان دولة منزوعة الرئاسة والقرار السيادي، كما هي حاله منذ سنتين. ومثل هذا الخلو للرئاسة من رئيس، يندرج في الإطار نفسه بالنسبة إلى حلول ذكرى الاستقلال، ومن دون أن يكون التعامل مع هذه الذكرى بما تستحقه. ولا يتجنَّى المرء على تشخيص الحالتيْن بالقول إنهما لبنان اليتيم لجهة ذكرى الاستقلال الذي بلغ من الشيخوخة التي تستحق التكريم في أعلى درجاته. ويتيم لكونه وطناً بلا رأس، وهذا لأن بني قومه ارتضوا أن يكون الوطن على مدى نصف قرن ساحة أحزاب عميقة الولاء لمبتكري تكوينها. هنا بات المواطن فاقداً قراره وضبطه للأمور، وعلى هذا الأساس فهو ابن وطن نظام سقيم لا شفاء من سقمه، في ضوء الحال البائسة التي وصل إليها حيث لا يتم حسم ظاهرة الرئاسة وانتخاب رئيس.
وهذا الاستحقاق الذي كان في حالة إرجاء عمداً لم يعد على الحالة نفسها، بعدما بات الطيف الشيعي مهموماً بحصر انشغال البال بالسبل التي يعالج فيها محنة الطائفة التي لم تعد على القدرة الماضية للتعطيل، وأن الأولوية هي لمعالجة كارثة الدمار والنزوح واللجوء وخسران رهانات كانت فاعلة على مدى عقد من فرض الأمر الواقع، ولم تعد كذلك في ضوء التصفيات التي تتواصل حدوثاً لقيادات الصفوف التالية للصف الأول.
ما يعيشه لبنان عموماً كارثة غير مسبوقة باستثناءات محسوبة، ولا علاج إلى اعتماد أجواء الترميم الوطني، بدءاً بإغلاق نوافذ العواصف العاتية نافذة بعد نافذة، وبحيث تبدأ بعد استكمال مؤسسة الحكم بانتخاب رئيس للجمهورية، عملية الترميم برعاية عربية، هدياً بتجربة الإنقاذ التي تتمثّل في «اتفاق الطائف» وحاولت المغامرات الحزبية غير اللبنانية تشويه جوهر مضمونه الذي هو بمثابة العلاج الذي يخفّف من سقم النظام، ويسد الثغرات التي كانت السبب في نزاعات وتشديد على حقوق طوائفية غير مكتملة.
هنالك خواطر كثيرة تفرضها الحالة الكارثية التي يعيشها لبنان، سببها أنه على مدى ربع قرن، خصوصاً في السنوات العشر التي هذا العام 2024 أحدثها، كان وطناً ثنائي السيادة، سيادة رسمية بموجب استقلاله يوم 22 نوفمبر 1943، وسيادة نشأت بفعل أنه ساحة لمن يتطلّع إلى دور يتم تعزيزه من خلال الورقة اللبنانية.
لقد باتت هذه المناسبة أو الاستقلال اليتيم غير ذي اهتمام حتى من جانب أهل الحكم في الوطن السقيم.