بقلم - فـــؤاد مطـــر
كانت موضع استغراب عندما ارتفع منسوب غضب الشعب في السودان نتيجة مفاعيل الحُكْم الذي استبدّ، مسارعة الجار الإثيوبي في شخص رئيس الحكومة آبي أحمد للقيام بدور الوسيط بين الطيف الشعبي المعارض المتعدد المشارب والمفاهيم السياسية والطيف العسكري، المتمثل بمجموعة من كبار الضباط من رتبة فريق. ولقد بذل الوسيط الإثيوبي جهداً استثنائياً من أجْل التوفيق بين ركنيْ الانتفاضة «العسكبية» (جمعاً للعسكرية والشعبية). وعزّز سعيه أنه مسلم. ووجدناه يزداد حراكاً وسعياً من خلال الاتصال المباشر أو عبْر مبعوثه، كلما كان التفاوض يتعثر من أجْل التوصل إلى صيغة ترضي الطيفين اللذين يتفقان على إسقاط «نظام الإنقاذ»، لكنهما غير ذلك بالنسبة إلى مرحلة جني ثمار الانتفاضة، وكيف ستكون المحاصصة، وكذلك معالجة كثير من القضايا العالقة، بمعنى هل يتم الأخذ بأسلوب الاجتثاث و«قوننته» على نحو التجربة المتعجلة في العراق، وهل يصار إلى تسليم الرئيس عمر البشير إلى المحكمة الجنائية الدولية، بعدما انتهى نزيلاً في سجن «كوبر» الذي طالما أودع فيه عدداً من قادة الطيف المعارض، بما في ذلك الإسلاميان العريقان الدكتور حسن الترابي والسيد الصادق المهدي.
وثمة حيثية موضوعية توجب الاستغراب من هذا الدور المتميز لرئيس الحكومة الإثيوبية، الذي إضافة إلى إنجاز الاتفاق والتعايش بين إثيوبيا وآريتريا، كانا (الدور والإنجاز) الدافع لدى لجنة مؤسسة جائزة نوبل لمنحه «نوبل للسلام». الأمر الذي زاده ثقة بالنفس ما دام بات الثاني بعد النيلي الآخر الرئيس أنور السادات الذي يحمل هذه الجائزة السلامية.
من دواعي الاستغراب أن الجامعة العربية لم تكن هي المقتحمة للتعثر، الذي عليه جولات الأخذ والرد بين الطيف العسكري و«قوى التغيير». ومن الجائز الافتراض أن مبادرة سياسية عسكرية عربية تتولاها لجنة تضم مَن يمثل الدبلوماسية العربية، ومَن يمثل «الدفاع العربي المشترَك»، كانت ستلقى من رموز الأزمة السودانية الاهتمام وإبداء حُسْن النوايا وتخفيض سقف الشروط. والأهم من ذلك اختصار الوقت والشروع في إعادة ترميم السودان سياسياً واقتصادياً، ترجمة لمقاصد الشاعر العربي القائل: «إذا احتربت يوماً فسالت دماؤها... تذكَّرتِ القربى ففاضت دموعها» مع تعديل الصياغة، بحيث تصبح: «إذا اختلفت يوماً فزادت شروطها... تذكرت القربى فلانت قلوبها». لكن الجامعة لم تبادر، وتركت الوسيط الإثيوبي يبذل مسعاه، من منطلق أن السودان أفريقي وجار استراتيجي. ثم في نهاية الأمر يحقق مبتغاه غير المعلَن، وهو توظيف ثمار سعيه بحيث يقف النظام الجديد في السودان إلى جانب إثيوبيا في موضوع الأزمة العالقة مع مصر والناشئة عن «سد النهضة» الذي أنجزت إثيوبيا إنشاءه، وحددت مواعيد لملئه، متجاوزة الآثار السلبية الاستراتيجية التي طالما أوضحتْها الحكومة المصرية، ولقيت التفهم من جانب الإدارة الأميركية التي أخذت على عاتقها أمر التعاطي مع الأزمة، واستضافت لهذا الغرض يوم الأربعاء 6 نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 وزير خارجية مصر، ووزيرة خارجية السودان، ووزير خارجية إثيوبيا. وكانت صورة لقاء الرئيس ترمب بالوزراء الثلاثة لافتة، كونها غير مألوفة.
كان واضحاً أن الوزير الإثيوبي لم يأتِ لكي ينهي أزمة، في حين أن الوزير المصري والوزيرة السودانية أخذا في الاعتبار حرص إدارة الرئيس ترمب على مراعاة النظام الإثيوبي، وقطْع الطريق على جنوح محتمل نحو روسيا، وفي الوقت نفسه حرصه على تمتين العلاقة مع مصر، ونظرة إدارته إلى مستقبل العلاقة الاستراتيجية مع السودان الذي طوى صفحة «الإنقاذ» وبدأ التدوين في كتاب السياسة المتفهمة التي تروم تصحيحاً لـ30 سنة عاصفة في حياة الشعب السوداني. وفي ضوء هذه الاعتبارات، يحدوهما الأمل أن يكون الدور الأميركي حاسماً في الموضوع النيلي البالغ الحساسية. لكن اللقاء انتهى إلى الاتفاق على لقاءات ومزيد من المشاورات. وبذلك ربحت إثيوبيا مزيداً من الوقت، وهي أصلاً تخطط لذلك بحيث تكون مقومات ملء السد اكتملت.
في حال بقي الموقف الإثيوبي على حاله، وهو الإصرار على بداية ملء السد في يوليو (تموز) المقبل، فهذا مؤشر إلى أن العلاقة العربية - الأفريقية على موعد مع حال انقسام بالغة الخطورة. ونقول ذلك على أساس أن رئيس الحكومة الإثيوبية آبي أحمد يرى أن «سد النهضة» بالنسبة إليه هو ورقة رابحة لتجديد رئاسته، كما أنه مجد سياسي يتطلع إليه كذلك، المجد الذي ارتبط بزعامة الرئيس جمال عبد الناصر الذي أصرّ رغم كل المحاذير والخيبات من الموقف الأميركي على إنشاء سدّ أسوان أو التسمية الشائعة له «السد العالي». ويرى الرئيس الإثيوبي أنه في حال عدَّل موقفه، وارتضى الصيغة المتوازية التي تراها مصر، ويرحب السودان بها، فإنه لن يحصل على المجد الذي يتطلع إليه، وأن سعيه الحثيث من أجْل إنجاز تسوية للأزمة السودانية لم يحقق له مبتغاه، وهو أن يكون موقف السودان معه وليس مع مصر مستنداً إلى «المحاددة» الاستراتيجية بين السودان وإثيوبيا، فضلاً عن أن في استطاعة إثيوبيا الحدّ من اضطرابات حدودية طالما كانت مصدر قلق للسودان، ومن دون أن يكون هنالك إقلاق من الجانب السوداني. وهو بعدما بدأ يلمس نمواً سريعاً للتعاطف السوداني المتجدد مع مصر، بدأ يوطد العلاقة مع روسيا، وكأنما يريد من الرئيس بوتين وقفة في موضوع «سد النهضة»، تماثل وقفة «ترويكا» الكرملين، وبوجه خاص موقف خروشوف من موضوع «السد العالي»، ثم يطلق تصريحات غير مستحبة رداً على تصريحات مصرية.
عندما تصبح المشروعات بين الدول خارج التوافق، وتنعكس على حياة الناس على نحو قول الرئيس السيسي أمام ندوة عسكرية: «إن حصة مصر من المياه حالياً مع بلوغ عدد سكانها 100 مليون نسمة هي الحصة نفسها التي كانت تحصل عليها عندما كان عدد سكانها 15 مليوناً»، يصبح لا بد من نظرة عميقة وحكيمة للأمور. ولقد أوجزها وزير الري السوداني ياسر عباس بعبارة: «إن السودان يؤمن بحق الدول في التنمية، لكن من دون أن يكون سبباً في إحداث أضرار جسيمة للآخرين...».
خلاصة القول إن كفة الحق متساوية مع كفة الباطل في الميزان العربي - الأفريقي. الحق لإثيوبيا أن تستفيد تنموياً وكهربائياً من الثروة المائية، والباطل أن يكون ذلك على حساب ما هو بالغ الخطورة على مصر والسودان. وأي تنمية ستتم إذا كان عدم التفاهم على صيغة يرتضيها المثلث النيلي، سيؤدي إلى مواجهة، تبدأ باردة، ثم تحمى. وهذه تضر بالأجيال النيلية الثلاثة، مع كل رشفة ماء من النهر الخالد، بدءاً بمنبعه الإثيوبي، وصولاً إلى مصبه المصري، مروراً بانسيابه السوداني. والله المنجي.