بقلم - فـــؤاد مطـــر
اخترقت أجواء العتمة وضيق العيش على وقع تنظيرات حزبية وحركية وتيارية ترضي كبرياء قائليها ربما إلى حين، لكنها لا تبشر بأي انقشاع لأجواء العتمة وضيق العيش، هدية فرنسية تتمثل ببضعة «أوتوبيسات» للنقل وتشبه من حيث المعنى هدايا أميركية وبريطانية للجيش اللبناني، أتته في حين الجدالات العقيمة متواصلة في شأن تخمة السلاح الصاروخي الذي في حوزة «حزب الله»، وليس محسوماً أمر شرعيته؛ ذلك أن لبنان منقسم في شأن هذا السلاح، مع ارتفاع نسبة الصيغة التي تقضي بوضع هذا السلاح في عهدة الشرعية وتقنين دور المقاومين الذين طالما شاركوا في عروض عسكرية في وضح النهار، بحيث تكون أفواج «جيش حزب الطائفة» هؤلاء قوة نجدة لجيش وطن الجميع في حالات تستوجب القتال أو الردع... وبالذات لإبقاء ثروة الغاز الموعود المأمول تحت خط الأمان وعدم الاستلاب
ما يعنينا هنا كون أمر شرعية السلاح الحزبي المتطور وربما أكثر تفوقاً وتأثيراً من سلاح جيش الدولة، على جانب من التعقيد والذي أمْر حسْمه في أجندة وتطلعات المشروع الثوري الإيراني، هو هدية فرنسا التي بدت وكما أنها متلازمة مع فوز مبين للرئيس إيمانويل ماكرون بولاية رئاسية ثانية، وهو فوز يعني لبنان كما لم يعنِه من قبل دور أحد من الرؤساء السابقين؛ وذلك لأن ماكرون أدرج وهو يتابع المحنة التي يعيشها اللبنانيون في أولويات اهتمامه، فلم يقتصر الأمر على متابعة على مستوى السفير أو السفيرة على نحو ما فعلت وما زالت السفيرة الأميركية دوروثي شيا تؤديه، وأحدث لفتاتها المقتبسة من الحَراك التراثي والفكري قبل سنتيْن للسفير السعودي وليد البخاري في خيمته التي هي الثانية من حيث الشهرة بعد خيمة العقيد القذَّافي، استضافتها في السفارة رسامين تشكيليين ومطربين وهدفها من ذلك «بناء الجسور بين الناس والثقافات».
وعندما نقول، إن اهتمامات ماكرون لم تقتصر على المتابعة، فلأن الرئيس الفرنسي الثامن في الجمهورية الخامسة يراقب عن كثب وبتحفظ حَراك النائب جبران باسيل، صهر الرئيس ميشال عون، الذي يتطلع إلى أن يكون رئيساً مثله، بمعنى أن وصول ماكرون إلى الرئاسة كان معجزة وتجديده الرئاسة كان أعجوبة. وثمة أوجه شبه عدا عامل السن بين إطلالات الاثنين ماكرون وباسيل كل على جمهوره... هذا عدا الشكل والملامح.
نعود إلى موضوع هدية «الأوتوبيسات» التي بدت كما لو أنها لمناسبة الفوز الماكروني المبين بدورة رئاسية ثانية، لنقول، إن هذه الهدية في أشد الحاجة إلى المهداة إليه، أي الدولة اللبنانية. فإذا كانت ستتوزع على مناطق العاصمة بيروت وبعض المناطق الأُخرى من دون تأهيل مسبق، فإن ذلك سيسبب صدمة للهادي.
زيادة في التوضيح لجهة التأهيل نقول، إن السائد في وسائل النقل اللبنانية من «أوتوبيسات» و«باصات» مدعاة إلى الأسف. ولذا؛ فثمة خشية أن يصيب «أوتوبيسات» ماكرون ما هي عليه حالة التخلف التي تعيشها وسائل النقل الراهنة.
وأما التأهيل المأمول فهو تثبيت محطات لـ«الأوتوبيسات»؛ ذلك أن ما هو حاصل أن لا محطات كما سائر دول العالم، وحظْر التدخين في هذه «الأوتوبيسات» وكذلك حظْر بث الأغاني عشوائياً وبالصوت العالي وكما يختار السائق ذلك. وإلى هذا الحظْر الحفاظ على نظافة الحافلات فلا تبدو وكما لو أنها جزء من شارع فيه أوساخ، والتقيد بالأوقات المحددة لسير هذه «الأوتوبيسات».
في فرنسا يستعمل الجميع وضمن الأصول «الأوتوبيسات» التي وصل عشرات منها إلى لبنان هدية من فرنسا الرئيس ماكرون أحدث الأبناء الرؤساء لـ«الأم الحنون»، وأكثرهم تعاطفاً مع لبنان المكسور الخاطر من بني مسؤوليه وأحزابه وتياره و«حركته». قد نجد الوزير ومدير المصرف وعامل المقهى وناظر المدرسة وتلميذ الجامعة وسائر خلق الناس جالسين في «الأوتوبيس» بكامل نظافتهم وتأدبهم وكتبهم وصحفهم إلى جانب الأمر الواقع الإلكتروني الرفيق الذي لا يُستغنى عنه كل متوجه إلى عمله أو مدرسته أو جامعته. الجميع سواسية ومطمئنون إلى سلاسة النقل ورقي الوسيلة التي يستعملونها. وكما يدخلون «الأوتوبيس» أو عربة «المترو» وهي في منتهى النظافة، فإنهم يغادرون وقد تركوا الحافلة في أنقى نظافة؛ لا أوراق ترمى ولا تدخين. الاحترام واجب للأصول والممتلكات.
إذا كان لا بد من خدمة تسدى إلى المسؤولين اللبنانيين عن تسيير «الأوتوبيسات» المهداة، فهي الاشتراط عليهم أن يكون التعامل بمثل ما هو عليه في فرنسا. وإذا كان ذلك مستحيلاً تعاد هذه «الأوتوبيسات» من حيث جرى شحنها وليبقى لبنان في جاهلياته على أنواعها، ومنها وسائل النقل فيه التي يزداد التخلف رسوخاً في مقوماتها، حيث لا يريد أو لا يجرؤ مسؤول على تثبيت مواقف لوسائل النقل على أنواعها وبالذات «الباصات» و«الأوتوبيسات» وعلى منع التدخين في هذه الوسائل وما هب ودب من الأغاني وبالصوت العالي.
لقد مارس الرئيس ماكرون من كرم المؤازرة وصدق الاهتمام ما يستوجب الشكر. وعندما لا يكتفي بالتفقد ميدانياً ويقرن ذلك التفقد بلفتة غير مسبوقة إزاء الكوكب الثاني في الشرق فيروز المسحور وزوجته بأغنياتها بعد الكوكب الأول أم كلثوم الذي سحر شجن أغانيها الجنرال ديغول، فهذا تثبيت للصفة الراسخة في ضمير اللبنانيين عن فرنسا بأنها «الأم الحنون» والتي تتأكد مشاعرها في الساعات الصعبة التي يعيشها الوليد اللبناني الذي تزداد بنيته ضموراً في حين «العم سام» المعاقِب يمطره وعوداً وعقوبات وبعض ما يتيسر من السلاح لمناسبة زيارة قائد الجيش الجنرال جوزف عون إلى واشنطن ومحادثات أجراها في البنتاغون بدت كما لو أنها من موجبات التحضير لمَن سيكون الرئيس الرابع عشر للبنان «دولة الشيعة وسائر الطوائف الأخرى المتناثرة»... مع ملاحظة أن هدية «العم سام» تبقى من دون أهمية وفاعلية سلاح «حزب الله» الذي يتطلع اللبنانيون إلى أن ينتهي أمره في ثكنات جيش البلاد. وعندها، أي في حال حدوث هذه المعجزة، لا يعود التنافر على ما هو عليه وتنحسر المفردات التي باتت مدعاة خشية لدى اللبنانيين من فقدان خصوصيته كشعب في لبنان واحد لا لبنانين. رحمة الله على الرئيس صائب سلام.
ويبقى أن هذه مجرد خواطر تتوارد في مرحلة الأشهر الخمسة الأخيرة المتبقية على انقضاء حقبة بالغة المرارة جاوز فيها الظالمون من أُولي الأمر المدى واجهها اللبناني بالصبر الجميل في انتظار غروب الحقبة الصادمة وشروق شمس الأمل المنشود بلبنان العروبي الذي تكون صيغته الطوائفية استعادت توازنها واستقرت على وفاق... لبنان السائر وإن طال المدى على طريق الحياد... والله المعين.