بقلم نديم قطيش
إعلان إيران عن إلغاء ما يسمى «شرطة الأخلاق»، من دون أن تتيسر لنا سبل التأكد من صحة الإعلان، وشروع بعض أجهزة الدولة في مراجعة قانون إلزامية الحجاب، تُماثل الإجراءات اليائسة التي أقدمت عليها أنظمة أخرى قبل سقوطها. خطوات تندرج فيما اصطلح على تسميته في اللغة الإنجليزية Too Little Too Late.
فلا حجم التغيير، إن صدق العزم عليه، ولا توقيته، بعد سقوط مئات القتلى، وتطور عناوين التظاهر باتجاهات راديكالية، يفيان بالغرض. الأرجح أن القرارين الإيرانيين الرسميين سيعززان قناعة القوى المنتفضة بأحقية قضيتها وسلامة موقفها، وسيضغطان على المتشككين أو الواقعين في أسر الدعاية السياسية الكثيفة للنظام.
الخطوات المتأخرة، إن دلت على شيء، تدل على حجم الارتباك الرسمي، وتضعضُع السردية الثورية حول الأحداث، بما يضعف أكثر هيبة الأجهزة وشرعية كبار المسؤولين في الدولة.
في بدايات الحراك أنكرت السلطات الإيرانية أن يكون عنف عناصر «شرطة الأخلاق» وراء مقتل مهاسا أميني؛ الفتاة العشرينية التي أشعل مقتلها موجة الاحتجاج الراهنة، وعزت وفاتها لأحوال طبية سابقة لأميني، في حين ذهب البعض إلى حد القول إن أميني انتحرت ليكون موتها مقدمة للحاصل اليوم.
كما واظبت السلطات على إنكار أن إلزامية الحجاب هي دافع المنتفضين، وراحت تتفنن في تخيل المؤامرات التي لا بد وأنها تحرك الشارع. فلو صح ذلك، لماذا، إذن، تشرع السلطات الإيرانية الآن في معالجة أسباب أنكرت في البداية أنها وراء الحراك؟ ولو أن الحجاب وشرطة الأخلاق هما سببا الانتفاضة الشعبية، فبأي ذنب قتل المئات من المتظاهرين الغاضبين بتهمة التآمر على الأمن القومي، بدل أن تُسمع أصواتهم منذ البداية؟
بات كل المترددين والمتشككين، وبسبب أداء الحكومة، يعرفون اليوم أن إلزامية الحجاب مشكلة، وأن شرطة الأخلاق مشكلة، وأن مثل هذه المشاكل لا تنفصل عن المشكلة الأم؛ وهي أننا بإزاء دولة ما عادت قادرة، على أن تستجيب لتطلعات أجيالها الجديدة، أو شرائح مهمة من هذه الأجيال، وأن مسارات الطلاق بينهم وبين نظام الثورة عريضة ومفتوحة.
حقيقة الأمر أن في إيران ثورتين تتصارعان بكل ما للكلمة من معنى. ثورة نكوصية تريد الحفاظ على عودة إلى ماضٍ ما، أنجزت عام 1979، وثورة تريد تحديداً الطلاق مع كل ما أنتجه العام 1979.
ثورة لا تزال تتمسك بتصدير قيمها ورؤيتها للعالم والعدالة والعلاقات الدولية، وثورة تريد أن تستورد ما تراه أنه العالم وعلاقته ومنتجاته وقيمه.
المنتفضون بعد وفاة مهاسا أميني، لا تعنيهم انتصارات إيران في الخارج، أو نجاحاتها التدميرية عبر ميليشيات ومرتزقة وأسلحة ومسيرات. يريدون من هذا الخارج صوره التي تصلهم عبر الجاليات الإيرانية الضخمة والفاعلة في لوس أنجليس، أو باريس أو دبي أو تل أبيب أو أي عاصمة ومدينة ذات صلة بالحداثة في العالم.
يراقبون أحوال المرأة في جوارهم السعودي، فتصدمهم الثورة الثقافية والقيمية والدينية الجارية في مجتمع لا يخفون تعاليهم عليه، لأسباب تاريخية وقومية تتعلق بالشخصية الوطنية الإيرانية. مزيج من الغيرة والغضب، يفعل فعله في الفضاء الاجتماعي العام، على نحو قلب الآية في العلاقة بين الرياض وطهران.
بعد الثورة الخمينية كانت أولى بشائر التصدير، ميليشيا «حزب الله الحجاز»، الساعية إلى قلب النظام في السعودية. اليوم تسير الثورة باتجاه معاكس ومن دون قرار مسبق. الجاري في السعودية، حديث الساعة في قلب إيران، وهو ما يكمن خلف التهديدات الأخيرة بحق الرياض وإعلامها.
كل ما يحصل في إيران هو في العمق هذا الصراع بين من يريد استيراد ثورة ومن يريد تصدير ثورة.
وكلمة ثورة لا تستخدم هنا في معرض المبالغة أو سوء التقدير. لقد دخل هذا التوصيف إلى الأدبيات التي تتابع الحــــراك الشعبي في إيران المندلع منذ نحو ثلاثة أشهر. فما عادت شعارات المنتفضين تطالب بالإصلاح أو التعديل، بل ذهبت إلى حدود نقض أسس النظام الإيراني والتشكيك في شرعيته وطبيعته.
والأهم أن الثورة الراهنة لا تتزعمها أو تقودها شخصيات من داخل مؤسسات الخمينية، كما كان حال «الانتفاضة الخضراء» عام 2009 مع ثلاثي مير حسين موسوي ومهدي كروبي ومحمد خاتمي. ففي أحسن الأحوال كان تلك المرة، حركة تصحيحية من داخل النظام وعلى يد أبرز بُناته. أما اليوم فنحن أمام اصطدام مباشر بين النظام بكليته وبين شبيبة تريد شيئاً مختلفاً تماماً.
ليس من باب الصدف أن يكون الحجاب هو محور ما ينقسم حوله المنقسمون. فالحجاب هو في التحليل الأخير، صورة الثورة الخمينية ومعناها وديناميتها الاجتماعية العميقة كنظام قيم. ولأن الحجاب هو النظام، في عيون أهله، ذهب المنتفضون إليه عنواناً لهدم النظام برمته.
نعم المسألة أبعد من الحجاب كمعطى مادي مباشر، أو كعنوان للحريات الفردية التي تتسع المطالبات بها. الحجاب هو الكناية التامة عن الخمينية التي يرسلها الجيل الإيراني الجديد، بالكثير من الدماء والتضحيات، إلى رفوف التاريخ.