اليسار المعاصر وفخ الهوية

اليسار المعاصر وفخ الهوية

اليسار المعاصر وفخ الهوية

 العرب اليوم -

اليسار المعاصر وفخ الهوية

بقلم - نديم قطيش

يُشرِّح كتاب ياشا مونك «فخ الهوية: قصة الأفكار والسلطة في عصرنا»، واحدةً من أبرز الآيديولوجيات الليبرالية المعاصرة، التي تقوم على فكرة الهوية معياراً للعدالة الاجتماعية والسياسية. يتعمق مونك في رصد أزمات الديمقراطية الليبرالية من هذه الزاوية «الهوياتية» التي تزعم، في عالم اليوم، احتكار الحق بتعريف ما هو تقدمي وما هو عكس ذلك.

ميزة مونك أنه يلج إلى هذه المساحة الفكرية من موقع الانحياز التام لمبادئ العدالة الاجتماعية، على خلاف الأطروحات الأخرى التي أخذت مناحي يمينية محافظة، فجاء طرحها المضاد مغلقاً وصارماً وصلباً، تماماً كالآيديولوجيا الهوياتية التي يرفعها خصومه في معسكر اليسار المعاصر.

تقوم الأطروحة المركزية لـ«فخ الهوية» على نقد ما يسميه مونك «تركيب الهوية»، أي التوجه الذي يجعل من هوية المجموعة، أكانت عرقية أو جندرية، أو تتعلق بالخيارات الجنسية، نقطة ارتكاز للحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية، الأمر الذي، حسبه، أوقع اليسار في شرك الانقسامات الحادة والصراعات القبلية التي قوّضت أهداف العدالة الاجتماعية التي تزعم هذه الآيديولوجيا السعي إلى تعزيزها.

فالإفراط في التركيز على هوية المجموعة يخلق بيئة متنافرة تقوم فيها علاقات الأفراد البينية على معيار هوية المجموعة، لا على خصائصهم الفردية، على نحو يعزز الأحكام المسبقة بين المجموعات ويزيد من حدة الانقسامات. فعندما تصبح الهوية هي محور النشاط السياسي والاجتماعي، غالباً ما يؤدي ذلك إلى تفاقم التوترات بين المجموعات المختلفة، حيث تشعر كل مجموعة أن اهتماماتها وهوياتها المحددة يتم المبالغة إما في التركيز عليها أو في تجاهلها.

تمهد هذه المناخات الطريق أمام علاقات اجتماعية موبوءة محكومة بديناميات الضحية والجلاد، ما يؤدي في بعض الأحيان إلى تصنيف صارم للأفراد إما «كظالمين» أو«كضحايا» بناءً على هويتهم الجماعية.

ولئن كانت قضايا العدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية معقدة ومتعددة الأوجه، فإن النظر إليها من عدسة هويات المجموعات يؤدي إلى المبالغة في تبسيطها، والنظر إليها حصراً من خلال منظور العرق أو الجنس أو علامات الهوية الأخرى. ومن الممكن أن يتجاهل هذا التبسيط عوامل حاسمة أخرى مثل الطبقة، أو الآيديولوجية السياسية، أو التجربة الفردية، مما يؤدي إلى استعجال وضع حلول ناقصة غالباً ما تنحرف عن معالجة جذور الأزمات وتكتفي بإجراءات تجميلية واسترضائية.

لا يتجاهل مونك في كتابه أهمية الاعتراف بأوجه عدم المساواة والظلم الممنهجة التي تواجهها أو واجهتها الفئات المهمشة، لكنه يحذر بشكل صارم مما يسميه «الانفصالية التقدمية»، التي أوصلنا إليها فائض التركيز على خطاب الهوية، وأدى تقويض المبادئ العالمية للديمقراطية الليبرالية. يذهب نقد مونك لآيديولوجيا الهوية إلى أبعد من النظرية، مستعرضاً الآثار العملية لها في مختلف مجالات الحياة. من السياسات التعليمية إلى مبادرات الشركات واستراتيجيات الصحة العامة، يوضح كيف تغلغلت الممارسات التي تركز على الهوية في هذه المجالات، وغالباً ما كانت لها عواقب غير مقصودة ومثيرة للخلاف. وفي هذا الصدد يحشد مونك الكثير من الأمثلة على ما يحذر منه، مثل الفصل بين الطلاب على أساس العرق في إحدى مدارس أتلانتا، أو ما يسمى التمييز الإيجابي الذي يعطي الطلاب من أصول أفريقية الأفضلية على نظرائهم البيض في بعض الجامعات، أو سياسات الصحة العامة المثيرة للجدل خلال جائحة «كوفيد - 19»، التي أعطت الأولوية لعلامات الهوية على استراتيجيات الصحة العامة الأوسع.

ويرصد الكتاب بنباهة، الأصول الفكرية لهذه الآيديولوجية، متتبعاً جذورها إلى نظريات ما بعد الحداثة ورفضها الوسواسي حتى للحقائق الموضوعية، ونظريات ما بعد الاستعمار وهوسها بتفكيك خطاب الهيمنة، والنظريات العرقية النقدية التي تعمق فهم العالم من خلال عدسة هوية الجماعات بشكل شبه حصري. ومع اعترافه بالرؤى الواقعية التي قدمتها هذه النظريات، يؤكد مونك أن تطبيقها كان في كثير من الأحيان متطرفاً وأدى إلى نتائج عكسية.

وإذ يعترف مونك بأن التحول نحو السياسات التي تركز على الهوية حصل بناء على فتوحات علمية مرموقة، سلطت الضوء على جوانب مهمة لبعض تجارب العنصرية الهيكلية والممنهجة، ككتابات مفكرين مثل ديريك بيل وكيمبرلي كرينشو، إلا أنه يحذر من الاستسهال والاختصار الذي ميز التعامل مع طروحاتهم المعقدة، على نحو أدى إلى توظيف أفكارهم بطرق تختلف بشكل كبير عن هدفهم الأصلي.

أهمية الكتاب تكمن في النقد الثاقب الذي يقدمه مونك عندما يناقش آثار آيديولوجيا الهوية على الديمقراطية الليبرالية. ولعل أبرز ما يشير إليه الكاتب هو ما أفرزته آيديولوجيا الهوية من هيكليات تعزز الرقابة، والتعصب الأخلاقي، والاستهزاء بالمؤسسات الديمقراطية، أي خلاف كل ما تدعي الديموقراطية الليبرالية السعي لتحقيقه.

يقدم «فخ الهوية» استكشافاً مثيراً للتحول الكبير الذي طرأ في العقود الأخيرة على الفكر التقدمي المعاصر، وانحرافه نحو منطقة تعيق الوصول إلى عدالة اجتماعية سليمة بدلاً من خدمتها.

وتتسم دعوة مونك للعودة إلى القيم العالمية والإنسانية كالمساواة والحرية والعدالة للجميع، براهنيتها، من خلال فحص ما يحيط بنا من انفجارات هوياتية قاتلة، لا سيما أنها دعوة، وهي تنقد تعصب الهويات، تحاذر تجاهل تعقيدات الهوية ودورها في التأثير على قضايا العدالة الاجتماعية والخطاب السياسي.

arabstoday

GMT 04:32 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

رسائل الرياض

GMT 04:28 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

د. جلال السعيد أيقونة مصرية

GMT 04:22 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران وترمب... حوار أم تصعيد؟

GMT 04:19 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

هل تغتنم إيران الفرصة؟!

GMT 04:17 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

داخل عقل ترمب الجديد

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

اليسار المعاصر وفخ الهوية اليسار المعاصر وفخ الهوية



الملكة رانيا تجسد الأناقة الملكية المعاصرة في 2024

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 10:34 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
 العرب اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 10:29 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
 العرب اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 09:16 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أحمد العوضي يتحدث عن المنافسة في رمضان المقبل
 العرب اليوم - أحمد العوضي يتحدث عن المنافسة في رمضان المقبل

GMT 20:21 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

غارة إسرائيلية تقتل 7 فلسطينيين بمخيم النصيرات في وسط غزة

GMT 16:46 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

صورة إعلان «النصر» من «جبل الشيخ»

GMT 22:23 2024 الخميس ,19 كانون الأول / ديسمبر

إصابة روبن دياز لاعب مانشستر سيتي وغيابه لمدة شهر

GMT 06:15 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

جنبلاط وإزالة الحواجز إلى قصرَين

GMT 18:37 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

مصر تحصل على قرض بقيمة مليار يورو من الاتحاد الأوروبي

GMT 10:01 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

الزمالك يقترب من ضم التونسي علي يوسف لاعب هاكن السويدي

GMT 19:44 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

هزة أرضية بقوة 4 درجات تضرب منطقة جنوب غرب إيران

GMT 14:08 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

استشهاد رضيعة فى خيمتها بقطاع غزة بسبب البرد الشديد

GMT 14:09 2024 الخميس ,19 كانون الأول / ديسمبر

كوليبالي ينفي أنباء رحيله عن الهلال السعودي

GMT 03:37 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

أحمد الشرع تُؤكد أن سوريا لن تكون منصة قلق لأي دولة عربية

GMT 20:22 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

الاتحاد الأوروبي يعلن صرف 10 ملايين يورو لوكالة "الأونروا"
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab