وصلتني نسخة مقرصنة من كتاب مذكرات جون بولتون، مستشار الأمن القومي السابق، خلال الأيام الثلاثة الماضية، عبر تطبيق «واتساب»، من أكثر من دزينة من الأصدقاء، قبل صدوره الرسمي اليوم.ما كثافة التداول هذه إلا دليل إضافي على أن الرئيس الأميركي، وما يتصل به، ليس قائد العالم الحر وحسب، بل رئيس العالم بشكل أو بآخر. هو بالتالي الرئيس «الأقل شرعية» في التاريخ البشري، إذ إن انتخابه يتم من الجزء الناخب من 300 مليون أميركي فقط فيما تؤثر قراراته على حياة مليارات البشر ممن لا يشاركون في انتخابه!
كأن الكتاب، هذا الكتاب وما سبقه وما سيليه، وما يفرزه من كتابات وآراء وصناعة رأي عام في العالم هو صلة غير الأميركيين بالانتخابات الرئاسية الأميركية وإلى حد ما بنتائجها، ولو كانت صلة أقرب إلى الوهم منها إلى الواقع.
الإيرانيون سينتظرون من الكتاب، وما يليه، معرفة مصائرهم في واحدة من أصعب اللحظات في التاريخ المعاصر للأمة الإيرانية. كذلك سيبحث السوريون واللبنانيون بين ثنايا الكتاب عن مسارات القرارات التي اتخذت بحق «قضاياهم» ليستنتجوا ما ستكون عليه أيامهم في المستقبل القريب، لو أعيد انتخاب الرجل أو سكن غيره البيت الأبيض. السودانيون والليبيون والإسرائيليون والخليجيون والكوريون الشماليون... وحتى الأوروبيون سيبحثون عن ملامح لغدهم وتفسيرات لبعض ماضيهم القريب، الكامنة في قرارات رجل واحد، ومن مصدر كان «في غرفة الحدث» كما يقول عنوان الكتاب.
الكتاب، وقد اجتزت، ثلثي صفحاته، هو في العمق صراع بين جمهوري محافظ عقائدي اسمه جون بولتون، وبين رئيس براغماتي مرن اسمه دونالد ترمب، يشكك بولتون حتى في حزبيته الجمهورية.
وهذا استنتاج مخالف للانطباع العام السائد عن الرئيس دونالد ترمب، الذي يمتاز أسلوبه بصلف يفترض أنه أبعد ما يكون عن المرونة والبراغماتية.
في الكتاب يروي مستشار الأمن القومي السابق تفاصيل الصراع بين جاريد كوشنير، صهر الرئيس الأميركي، والإدارة الإسرائيلية، حول صياغة السياسة الأميركية تجاه إيران. وحسب بولتون، حاول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وسفير إسرائيل لدى الولايات المتحدة رون ديرمر، منع ترمب من الاجتماع مع وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، على هامش اجتماع مجموعة السبع في أغسطس (آب) 2019 في مدينة بياتريس الفرنسية. ويكشف بولتون أن «كوشنر، وخلال اتصال هاتفي مع السفير الأميركي لدى إسرائيل ديفيد فريدمان، أخبره أنه لن يسمح لمكالمة نتنياهو بالمرور (…) لأنه لا يعتقد أنه من المناسب أن يتحدث زعيم أجنبي إلى ترمب حول من يجب يلتقيه الرئيس أو يتحدث إليه». ويؤكد بولتون أن خيار ترمب كان لصالح لقاء ظريف، مستنداً إلى تأييد كل من كوشنير ووزير الخزانة الأميركي ستيفن منوتشين، الذي يلعب دوراً مركزياً في صنع السياسة الأميركية ضد إيران. أما وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، فحسب الكتاب، عبر عن استياء بالغ من أن السياسة الخارجية الأميركية مختطفة من ديمقراطيين هما كوشنير ومنوتشين!!
الكتاب يؤكد عبر هذه الرواية وغيرها من الروايات حول الصين وكوريا الشمالية وأوروبا، أن ترمب ليس عقائدياً في مسألة رفض الحلول بقدر ما أنه يريد صفقات يستطيع الدفاع عنها كانتصارات سياسية. بيد أن رواية كهذه تبقى ناقصة، إن جرى تأطيرها على هذا النحو المختصر وعبر سردية غاضبة يقدمها بولتون طوال صفحات كتابه. صحيح أن ترمب ألغى عملاً عسكرياً رداً على إسقاط إيران مسيّرة أميركية فوق مضيق هرمز، إلا أن الرجل وفي «ميزان حسناته الإيراني» فعل ما لم يفعله لا الديمقراطي باراك أوباما الذي أعطى إيران اتفاقاً نووياً يؤمن الكثير من طموحاتها، ولا الجمهوري جورج بوش الذي قبل بالتعايش مع الاستنزاف الإيراني له في العراق لسنوات طويلة ودامية. على العكس من ذلك أنهك ترمب إيران بسياسات العقوبات القصوى، ومقتل القائد السابق لـ«فيلق القدس» قاسم سليماني في عملية باهرة في علنيتها وتجرؤها، وهو ما انعكس بشكل شديد السلبية على قدرات إيران في سوريا والعراق وحتى لبنان!
بولتون جعل الكتاب منصة تصفية حساب مع ترمب، بالمعنى الشخصي للكلمة. فرغ شحنات هائلة من الإحباط كمستشار لم يتسنَ له أن يكون في موقع صانع القرار. قد لا يكون ترمب أكثر الرؤساء ثقافة أو علماً في تاريخ الرئاسة الأميركية، وقد مر نظراء له في البيت الأبيض دخلوا التاريخ كرونالد ريغان، وربما جورج دبليو بوش، قبل عقود من الآن. ما فشل بولتون في تقديمه هو رؤية مضادة لما يفترض أنه رؤية البيت الأبيض حول السياسات الداخلية. وأضاع بالتالي على المهتم بأميركا فرصة التلصص إلى داخل أروقة صناعة السياسة فيها من شخص جلس 17 شهراً داخل «غرفة الحدث»!
الكتاب غير ذي قيمة، وشديد الأهمية في آن.
لن يتذكر أحد في الشرق الأوسط رويس لامبيرت، القاضي في محكمة واشنطن العاصمة، الذي حكم في دعوى وزارة العدل الأميركية المقامة ضد نشر كتاب مذكرات المستشار السابق للأمن القومي الأميركي جون بولتون. لامبيرت أجاز نشر الكتاب، على جري عادة القضاة الأميركيين، في الدعاوى الكبرى المتصلة بالذاكرة السياسية كقضية «أوراق البنتاغون» حول أسرار حرب فيتنام، أو كتاب بولتون اليوم، متجاوزاً ضغوطاً هائلة من الإدارة الأميركية، ومنحازاً لما يعرف أميركياً بالتعديل الأول، الذي من دونه لا توجد أميركا التي نعرف.
التعديل الأول هو طليعة عشرة تعديلات أدخلت نهاية عام 1791على النص الأصلي للدستور الأميركي، ضمن ما يعرف في التاريخ السياسي الأميركي بوثيقة الحقوق. وهو تعديل يمنع المشرع الأميركي من صياغة أي قوانين تحد من الحريات الدينية أو الفردية، أو تسهل التعدي على الصحافة والحق بالتجمع السلمي.
يعرف الشرق أوسطيون جورج فلويد، الأفريقي الأميركي الذي قتله شرطي أبيض في مينيسوتا، ويحفظون ملامح وجهه وحشرجات صوته. وكغيرهم في زمن الجريمة المعولمة التي سرعان ما تتخذ كل مواصفات مسلسلات الإثارة المتوفرة عبر «نتفليكس» أو غيرها من منصات البث حسب الطلب، قفزوا إلى استنتاجات مبتسرة تشييع أميركا وحرياتها وليبراليتها إلى مثواها الأخير. هؤلاء لن يلتفتوا إلى أميركا الأخرى. أميركا القاضي رويس لامبيرت الذي يجسد كل مجيد في التجربة الأميركية الفريدة، بقضائها وفصل سلطاتها ودستورها وحرياتها.
يقتضي الإنصاف القول إن اللحظتين؛ قتل جورج فلويد وحكم رويس لامبيرت، هما لحظتان أميركيتان بامتياز. صورتان تتكاملان على تنافر وتنابذ، ضمن دينامية تصنع اللحظة الكلية لأميركا في سياقاتها المتصارعة وفي قيمها المتنازعة