سوريا صراعات الذّاكرة وهويّة الألم

سوريا: صراعات الذّاكرة وهويّة الألم

سوريا: صراعات الذّاكرة وهويّة الألم

 العرب اليوم -

سوريا صراعات الذّاكرة وهويّة الألم

بقلم : نديم قطيش

تجاوز الحدث السوريّ، في جوهره العميق، فكرة سقوط نظامٍ أو قيام آخر. ما تشهده سوريا الآن ليس أقلّ من أزمة هويّة، في لحظة اختلالٍ خطيرة في ميزان التاريخ والذاكرة.

سريعاً خرجت إلى الواجهة إشكالية التنافس على ملكيّة المعاناة، واندلع صراع السرديّات بين من يُريد أن يحصر ذاكرة الألم في جماعةٍ واحدةٍ، ومن يصرّ على قلقِ الجماعاتِ الأخرى عنواناً وحيداً للمرحلة الجديدة. فما يجري في سوريا ليس صراعاً على السلطة وحسب، بل صراع على الذاكرة والمستقبل، وصراع على صياغة الهويّة الجديدة للدولة الناشئة.

أحداث اللاذقية بين السنّة والعلويين، والديناميّات القلقة التي تميّز حراك الأكراد والدروز، والارتجال الذي شاب كتابة الإعلان الدستوري، تضعنا أمام سرديّاتٍ متنافسة، تختزل الهويّة في معادلةٍ صفريّة، تجعل ثمن الاعتراف بوجع طرفٍ هو إقصاء وجع الآخر.
تجاوز الحدث السوريّ، في جوهره العميق، فكرة سقوط نظامٍ أو قيام آخر. ما تشهده سوريا الآن ليس أقلّ من أزمة هويّة، في لحظة اختلالٍ خطيرة في ميزان التاريخ والذاكرة

منذ لحظة سقوط نظام الأسد في سوريا، طفا على السطح خطاب الأقليّات وتوجّساتها المشروعة من المجهول. المسيحيون والدروز والعلويون والآخرون الذين عاشوا في ظلالِ حمايةٍ نسبيّة، ولو متوتّرة، يجدون أنفسهم فجأةً أمام واقعٍ سياسيّ جديد، ينظرون إليه بعينِ القلق والتوجّس والريبة. لكنّ هذا التركيز المشروع، بل والضروري أحياناً، يتحوّل تدريجيّاً إلى سرديّةٍ تكادُ تُقصي، معاناةَ الأكثرية السنّية التي تحمَّلت، أكثر من سواها، القسط الأكبر من الاعتقال، والتعذيب، والتهجير القسري، والقتل على مدى نصف قرنٍ أو يزيد.

يعيق هذا التنافس الخفيّ بين سرديّتين، سرديّة الألم التاريخي للأكثريّة المهمّشة، وسرديّة الخوف من المستقبل لدى الأقلّية المرتابة، أيَّ محاولةٍ حقيقيّةٍ لبناء هويّةٍ وطنيةٍ جامعة. فاختزال المأساة السورية إلى معادلة صفريّة، حيث الاعتراف بحقّ جماعةٍ ما لا يستقيم إلّا بإنكار حقّ جماعةٍ أخرى، سيؤسّس لشرخٍ جديد، أعمق وأخطر ممّا سبقه.

هويّة ثابتة ومتماسكة

ليس السؤال السوري الأهمّ الآن “مَن ضحيّةُ مَن؟” وحسب، بل كيف يمكن تجاوز مأزق المنافسة على الألم إلى أفقٍ وطنيٍّ جامع، يعترف بمعاناة الجميع دون استثناء، عبر حوارٍ وطني شامل، يفتح المجال أمام سردٍ متبادلٍ للآلام، لا لإعادة إنتاج الكراهية، بل لإعادة بناء الثقة.

أخطر ما يمكن أن تقع فيه سوريا اليوم هو تَحوُّل الضحيّة، السنّية أو الكردية أو العلوية، إلى موقعٍ نرجسيّ، أي تحويل الألم والظلم إلى جزء من هويّة ثابتة ومتماسكة، تُستخدم لتبرير أشكال مختلفة من الإقصاء أو الهيمنة أو مغازلة أوهام الانفصال.

“تنافس الضحايا”، أو صراع الجماعات على الشرعيّة الكبرى أو المعاناة الأعمق، يهمّش النقاش الجدّي في الأسباب البنيويّة العميقة للظلم الاجتماعي والسياسي، ويحصر الخطاب في دائرةٍ ضيّقةٍ من “الأخلاقويّة” الرمزية، بدلاً من معالجة الجذور الحقيقية للمحنة السورية.
منذ لحظة سقوط نظام الأسد في سوريا، طفا على السطح خطاب الأقليّات وتوجّساتها المشروعة من المجهول

ما تحتاج إليه سوريا اليوم هو آليّات واعية، لعدالةٍ انتقاليّةٍ حقيقية، واعترافٍ شاملٍ بمظلوميّة كلّ من عاش هذا الألم الطويل، وعدم الاكتفاء بجعل هذا الاعتراف طقساً رمزيّاً وحسب، بل ضرورة وطنيّة لإعادة تأسيس الدولة والهويّة والعقد الاجتماعي.

لا توجد حلول سهلة أو ممرّات آمنة ومضمونة للخروج من فخّ “الهويّات المغلقة” والمتصارعة: هويّةٌ للأكثريّة مبنيّةٌ على الشعور بالخذلان والنسيان المتعمّد، وهويّةٌ أقلّويّةٌ أسيرة الخوف الدائم من الانتقام. وليس في ذلك إلّا تأسيس أكيد لاستقطاباتٍ مدمّرة، وحروبٍ جديدةٍ كامنة، وذاكرةٍ جماعيّةٍ مشوّهة.

السّلم المستدام

هذا التوازي بين منطق المظلومية من جهة وسرديّة الخوف من جهة أخرى، صاعق تفجير لمفهوم المواطنة الشاملة، التي ينبغي لها أن تستوعب الألم دون أن تغرق فيه، وأن تعترف بالمخاوف دون أن تُسجَن فيها، بما يتيح صناعة مستقبلٍ يتّسع لجميع السوريّين. كما أنّ، هذا التوازي، انتحال لنقاء الهويّة غير النقيّة أصلاً. فالهويّات، على ما يلاحظ أمين معلوف، ليست ثابتة أو أُحادية البعد، بل هي بطبيعتها متعدّدة ومُركّبة حتّى داخل الفرد نفسه.

إقرأ أيضاً: لم ينتصر الأمويّون ولم ينهزم العبّاسيّون

تنافس سرديّات الألم، لا يضمن فقط إعادة إنتاجها، بل يؤبّد الصراع بين منطق “نرجسيّة الضحيّة” و”رهاب الأقلّية” على نحو يبقي دمشق، ومعها سوريا، رهينةً لذاكرة الألم التي لا تجد خلاصاً إلّا بإقصاء الآخر.

سوريا الجديدة مطالَبة بعمل كلّ ما يلزم بغية إعادة تشكيل ذاكرة وطنية رخوة تتّسع لكلّ هويّات الألم، وأن تخلق من وجع الجميع جسراً نحو سلم أهليّ مستدام، لا خندقاً جديداً على جبهات حروب الذاكرة.

arabstoday

GMT 07:06 2025 الإثنين ,17 آذار/ مارس

رسالة أميركيّة لإيران: ضرب الحوثيّ!

GMT 07:02 2025 الإثنين ,17 آذار/ مارس

العودة من المنفى

GMT 07:01 2025 الإثنين ,17 آذار/ مارس

إيران و«المشاهد المؤلمة» وساعة القرار

GMT 06:58 2025 الإثنين ,17 آذار/ مارس

سوريا والرؤية الثالثة

GMT 06:55 2025 الإثنين ,17 آذار/ مارس

المشرق: تجاهل السياسة ونشوة الاستقواء

GMT 06:48 2025 الإثنين ,17 آذار/ مارس

أهم امتحان لتحديد اليوم التالي

GMT 06:45 2025 الإثنين ,17 آذار/ مارس

هل تطول الفرحة؟

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

سوريا صراعات الذّاكرة وهويّة الألم سوريا صراعات الذّاكرة وهويّة الألم



إطلالات هدى المفتي تجمع بين الأناقة العصرية والبساطة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 06:25 2025 السبت ,15 آذار/ مارس

السعودية وحل النزاعات

GMT 00:32 2025 الأحد ,16 آذار/ مارس

مسلسلات رمضان «2»

GMT 01:10 2025 الأحد ,16 آذار/ مارس

عبء التفكير (3)

GMT 15:08 2025 السبت ,15 آذار/ مارس

زلزال جديد بقوة 4.7 درجة يضرب جنوب إيطاليا
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab